أثر البيئة على الإنسان
يقال: “الإنسان ابن بيئته” يتأثر بها، وتكوّن شخصيته.
البيئة هي الحاضن الأساسي للمرء، وتسهم في تكوين شخصيته وبنائها بمختلف العادات المكتسبة، ويصل عمق تأثيرها إلى فكره ومعتقده.
البيئة الأولى للإنسان
البيئة تشمل المكان الذي يعيش فيه الإنسان، والناس الذين يحيطون به ويتواصل معهم بشكل دائم؛ يولد كل إنسان – كما أخبرنا النبي الكريم – على الفطرة، وتحيط به الأسرة، وهي البيئة الأولى التي تعطيه الاهتمام والحب والحنان والكثير من القيم والمبادئ والمعتقدات الأساسية التي يتبناها كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ، فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه”.
ونلاحظ من الحديث الشريف أنه لم يقل يسلمانه لأن الإسلام هو دين الفطرة الذي يولد عليه كل إنسان، ويأتي دور أسرته لتعزيز الفطرة أو إكسابه من المعتقدات ما اختلف فيه عن الحق.
وكما يقول المثل: “من شب على شيء شاب عليه”.
وللتربية الأولى التي يتلقاها الإنسان في أسرته الدور الأساسي في حياته المستقبلية، ولذلك نبه القرآن الكريم لتلك المسؤولية فقال عز وجل:
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ﴾ [التحريم ٦]
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
ما تمنحه البيئة الأولى للإنسان
الشكل والعادات
يعطي الأبوان أبناءهما الجينات الوراثية من شكل ولون وطول وغيرها من الصفات الخَلقية، كذلك التربية تعمل على صقل شخصيته؛ ففي البيئة الأولى يكتسب الطباع المختلفة من الانفعال أو الرفق، ومن الشدة أو اللين، و من الكسل أوالجد.
والاعتقاد الصحيح أو الاعتقاد الموروث، وتربيته على الصدق أو الكذب، والأمانة أو الخيانة… كل تلك الصفات يكتسبها الإنسان في طور حياته الأولى في بيئته الصغيرة بما يراه من سلوك الأبوين، وطريقة معالجتهما للأمور الطارئة والأمور الحيوية اليومية، فيكون غالب الأمر نسخة مصغرة من الأبوين معاََ، خليطاََ من تكوينهما الجسدي والنفسي والروحي. وأسلوب تعاملهما معه ينتقل إليه ليتعامل هو بدوره بالقالب نفسه غالباََ مع الآخرين.
جاء عن عبد الله عامر بن ربيعة قال: “دعتْني أُمي يوماََ ورسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قاعدٌ في بيتِنا فقالتْ: ها تعالَ أُعطيكَ فقال لها رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ: وماأردتِ أنْ تعطيهِ؟ قالتْ: أُعطيهِ تمراً، فقال لها رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ: أما إنك لو لمْ تُعطيهِ شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ”
وكثير ما يغفل الآباء عن مثل هذه المواقف، فينشأ الأولاد وقد ورثوا عادة الكذب التي استمرأها الأبوان أواحتقروا إثمها، وربما كان وزرها عند الله عظيماََ لما تفضي إلى ما هو أسوأ؛ فكان لزاماََ عليهما مراقبة كل أقوالهما وأفعالهما، فإنها تنتقل للأبناء ومنها للأحفاد، وتعم جيلاََ بعد جيل.
لذلك كان من أهم ما حرص عليه الإسلام الأسرة، وأساس اختيار الزوجين على الدين والخلق، ليكون الأفراد الذين هم نواة المستقبل في أحسن تقويم.
ومعلوم أن الفسيلة الغضة يسهل تقويمها وتصحيح إنباتها؛ عكس الساق المتصلبة للشجرة القاسية التي يطول زمن تعديل استقامتها وقد تُكسر إن عظم ميلانها.
وبالمقابل نجد الجذور الراسخة في التربة يصعب اجتثاثها، ولذلك كانت التربية الإيمانية في الصغر أبلغ أثراً.
وكذلك نقلُ البيئة الأولى لعادات وتقاليد المجتمعات قوي وأصيل يحتاج قوة تأثير أكبر ليمكن تغييرها واجتثاثها من جذورها.
وقد صحح القرآن الكريم الكثير من الظواهر الجاهلية التي انتشرت في المجتمع آن ذاك إلا ما رحم ربي، من تلك الظواهر ظاهرة وأد البنات.
قال رب العالمين في ذم وأد البنات:
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدࣰّا وَهُوَ كَظِیمࣱ ٥٨ یَتَوَ ٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦۤۚ أَیُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ یَدُسُّهُۥ فِی ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ ٥٩﴾ [النحل ٥٨-٥٩]
فكانوا يكرهون الإناث مغبة العار الذي قد يُلحقه بهم سبيها، فجاء بتصحيح ذلك، فحرم وأدهم.
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَوۡلَـٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَـٰقࣲ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِیَّاهُمۡۖ﴾ [الأنعام]
وكان رسولنا الكريم نبراساََ يضيء للعالم بعلاقته ببناته، ولاسيما ابنته فاطمة سيدة نساء الجنة؛
اسمع حديث عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها وأرضاها:
“ما رأيتُ أحدًا كانَ أشبَه سمتًا وَهديًا ودلًّا برسولِ اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – من فاطمةَ، كانت إذا دخلت عليهِ قامَ إليها فأخذَ بيدِها وقبَّلَها وأجلسَها في مجلسِه، وَكانَ إذا دخلَ عليها قامت فأخذت بيدِه فقبَّلتهُ وأجلستهُ في مجلسِها”.
فالحفاوة والاهتمام بالفتاة يكسبها صلابة في شخصيتها الرقيقة، كما وصفها عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله: “رفقاََ بالقوارير”
فكلما حرصتَ عليه من الخدش والأتربة كان لامعاََ مشعاََ.
وقال- عليه الصلاة والسلام -: “من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجاباً من النار يوم القيامة”.
الدين والاعتقاد
كما أسلفنا في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ولادة الإنسان أنها تكون على الفطرة؛ ويأتي دور الأبوين لتعزيز هذه الفطرة بتربيته على الدين
الحنيف والإيمان الراسخ، أو يحرفانه بعيداََ عن التوحيد.
الالتزام أو اللامسؤولية
تحرص التربية الإيمانية على تنشئة المؤمن القوي المعتز بدينه والفاعل المؤثر بمجتمه؛ فكم من بيئة علم خرجت علماء! وكم من بيئة قوة خرجت محاربين! وكم من فصيح لسان انتقلت فصاحته إلى أبنائه! وكذلك بيئة الدعاة والقضاة والمهندسين والتجار وغيرها من المهن والعلوم؛ فيكون الفرد منهم ابن صنعته، أي نشأ وهو يرى أبويه أو أحدهما منغمسان فيها، فيخوض تجاربه فيها من نعومة أظفاره، ويتعمق فيها وتنتقل خبرة آبائه إليه، ثم يأتي دوره كفاعل مطور لها.
وعلى النقيض؛ فكثير من الأهل ينجبون أولادهم ويهملون تربيتهم، فلا يعبؤون بتفكيرهم أو مشكلاتهم لانشغالهم عنهم، فيتركونهم عرضة للشاشات أو أصدقاء السوء أو يغرقونهم بكل ترف مما لذ وطاب ورخاء، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً…
فينشأ الولد غير مكترث بعبادة ولا طاعة، ولا يتحمل أدنى مسؤولية مهملاََ في دراسته ليكون هماََ وحسرة لأبويه.
التدين يزرع في تربة الأطفال الغضة
كالصلاة وغرس جذور العقيدة وغيرها من العبادات معلوم أن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، فكان من أولى المهام المسندة إلى الأهل تربية الأولاد على حب الله وتعظيم أوامره ونواهيه،
فكان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ
يقول: “علِّموا أولادَكُمُ الصلاةَ إذا بلَغُوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشْرًا، وفرِّقُوا بينهم في المضاجِعِ”.
ويقول عز وجل: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَیۡهَاۖ لَانَسۡـَٔلُكَ رِزۡقࣰاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ﴾ [طه ١٣٢]
فأساس التربية السليمة أن تغرس فسيلة الحرص على الصلاة في قلوب الأطفال، وتعليمهم هذا حرام وهذا حلال، وهذا معروف وذلك منكر، ليشبوا عليها قد تشربوا بها ليكونوا أولي قدرة وصلابة في مواجهة الفتن والتحديات.
وكم من أسر ربوا أولادهم على ذلك فكانوا قرة عين أهاليهم!
وكم من أهل فرطوا في ذلك وندموا بعدما كبر أولادهم!
وكذلك غرس أهمية حفظ البصر، وستر البنات بحجابهن، ليؤتي أكله كلما كان الأمر مبكراََ في الصغر.
البيئة الأوسع (الأصحاب والمجتمع)
تحدثنا أن البيئة هي المكان الذي يحيط بالإنسان ويتفاعل معه، وقلنا إن الأبوين هما البيئة الأولى للإنسان، وعندما يشب الولد يختار أصدقاء، وسوف يكونون جيدين أو سيئين، ويقضي معهم أوقاتاََ طويلة حضوراََ أو تحدثاََ عن بعد، وكل
ذلك يكون على حساب انحسار وقت الأبناء مع آبائهم، فيكون الأصدقاء هم البيئة الثانية للإنسان، كثيراََ ما يتأثر بهم لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
“المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”.
وما يقع تأثيره من الصاحب يتفاوت تأثيره مع ما يتلقاه من الأبوين بحسب قوة الارتباط مع البيئتين، وتتوسع بيئة الإنسان لتشمل محيط الدراسة والعمل والمجتمع ككل، وما يسوده من قيم ومبادئ وأفكار وتقاليد، ويعيش منغمساََ فيه مقبلاََ عليه أو نابذاََ له، ويرجع ذلك إلى رسوخ معتقداته الأولى أو سطحية تأثيرها.
صور من تأثير البيئة على الإنسان
نقرأ سورة النمل وقصة سيدنا سليمان -عليه السلام – مع الملكة بلقيس:
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمࣲ كَـٰفِرِینَ ٤٣ قِیلَ لَهَا ٱدۡخُلِی ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةࣰ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَیۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحࣱ مُّمَرَّدࣱ مِّن قَوَارِیرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّی ظَلَمۡتُ نَفۡسِی وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَیۡمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ٤٤﴾ [النمل]
إن ملكة سبأ لما تركت قومها عابدي الشمس، وجاءت إلى مملكة سيدنا سليمان – عليه السلام- أسلمت وآمنت بعدما ابتعدت عن بيئة الكفر.
كذلك في قصة الذي قتل تسعاََ وتسعين نفساً عظة حسنة، إذ جاء في الحديث الشريف:
“إنَّ عبدًا قتلَ تسعةً وتِسعينَ نفسًا ثمَّ عرضَت لَهُ التَّوبةُ، فسألَ عَن أعلمِ أَهْلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجلٍ فأتاهُ فقالَ: إنِّي قتَلتُ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فَهَل لي من توبةٍ؟ قالَ: بعدَ تِسعةٍ وتسعينَ نفسًا؟ قالَ: فانتَضَى سيفَهُ فقتلَهُ، فأَكْملَ بِهِ المئةَ، ثمَّ عرضَت لَهُ التَّوبةُ، فسألَ عن أعلَمِ أَهْلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجلٍ فأتاهُ فقالَ: إنِّي قتَلتُ مئةَ نفسٍ، فَهَل لي من تَوبةٍ؟ فقالَ: ويحَكَ، ومَن يحولُ بينَكَ وبينَ التَّوبةِ؟ اخرُج منَ القَريةِ الخبيثَةِ الَّتي أنتَ فيها إلى القريةِ الصَّالحةِ قَريةِ كذا وَكَذا، فاعبُدْ ربَّكَ فيها، فخرجَ يريدُ القريةَ الصَّالحةَ، فعرضَ لَهُ أجلُهُ في الطَّريقِ، فاختَصَمت فيهِ ملائِكَةُ الرَّحمةِ وملائِكَةُ العذابِ، قالَ إبليسُ: أَنا أولى بِهِ، إنَّهُ لم يعصِني ساعةً قطُّ، قالَ: فقالَت ملائِكَةُ الرَّحمةِ: إنَّهُ خَرجَ تائبًا”.
الشاهد من القول: “اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها”، وذلك لعظم تأثير العقل الجمعي على الفرد، فيلبس لبسهم ويأكل أكلهم، ويعيش نمط حياتهم، ويعتقد معتقدهم متوافقاََ معهم في قالب يشكل موروثاََ شعبياََ يصعب الخروج عنه.
الإسلام والمجتمع البيئة الأوسع
إن شدة تأثير العقل الجمعي على الإنسان، وعدم تقبله ما يخالفه، وبسط سيطرته على عقولهم الخاطئة التي تصبح كهذيان شعبي متفق عليه، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَاۤ أَلۡفَیۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ﴾ [البقرة ١٧٠]
وإذا رأيت فاكهة يانعة زاهية اللون تكره وضعها بين الفاسد من أمثالها النتنة الرائحة، فكذلك المسلم الطاهر كان من حرص الشرع على ضرورة سلامة التوحيد له أن نهى عن الإقامة والسفر إلى بلاد الشرك و الكفر إلا لضرورة لئلا ينتقل تأثيره إلى المسلم، ونرى كثيراََ من النماذج التي غرتها الحياة الغربية وانحرفت عن الإسلام متخففة من أحكامه أو تاركة له.
وعَنْ أَبِي نُخَيْلَةَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ يُبَايِعُ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: “أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ”.
ولكن إذا اضطر المؤمن لذلك كان لزاماََ تحصين نفسه إيمانياََ وعملياََ، وخلق بيئة بديلة تعينه على أمر دينه بصحبة صالحة يشد بعضهم عضد بعض لحسر تأثير المد الكفري للمجتمع.
قدرة الإنسان على مواجهة البيئة بأفكاره و إمكانية تغييرها
علمنا مدى تأثير البيئة على الإنسان، ليس في شكله وسمته فحسب بل في أفكاره ومعتقده.
فهل بمقدوره تغيير البيئة وفرض أفكاره عليها؟
إن فرض فكرة جديدة من قبل فرد على جماعة من الناس تتفاوت استجابتهم لهذه الفكرة في هذه البيئة حسب قابلية نفوسهم لها؛ فترى نفوس ضعيفي الإيمان مثلاََ في مجتمع يسوده الطابع الإسلامي إذا تجرأ أحدهم وكسر هذا الطابع بشيء من أفعاله تَبعهُ ضعيفو الإيمان شيئاََ شيئاََ، فيكثر سوادهم في تلك البيئة المريضة إلى أن يخلق الله غرساََ صالحاََ يعود لمحاربة تلك الأفكار الفاسدة ليحل محلها الصحيح النافع.
بيئة الإنسان ليست حجة له في اتباع الهدى أو الضلال
يتأثر الإنسان بالبيئة المحيطة به، وبقوة فعاليتها في طرح فكرة، وتقديسها، أو نبذها وإسفافها، إلا أن المسألة الإيمانية لم يعط الله فيها العذر للإنسان تبعاََ للبيئة، بل حمّله مسؤولية مواجهة طوفان الكفر بالتفكير والتعقل والحرص على نجاة نفسه بنفسه، ومن ثم استنقاذ من حوله.
نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱمۡرَأَتَ نُوحࣲ وَٱمۡرَأَتَ لُوطࣲۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَیۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَـٰلِحَیۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ یُغۡنِیَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔا وَقِیلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّ ٰخِلِینَ ١٠﴾[التحريم]
فهاتان المرأتان وجدتا في بيئة أطهر الناس على زمنهم، وأكرمهم في بيتي نبيين تسمعان وعظهما وآيات الله تتلى على سمعيهما، ولكنهما لم تتأثرا بهما في فكرهما.
وكذلك بالنسبة لابن سيدنا نوح – عليه السلام – لبث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين سنة، ولم يستجب له أقرب الناس زوجه وابنه.
وكذلك نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام – لم يستطع أن يهدي عمه أبا طالب الذي كان مدافعاََ عنه ومربيه، وهدى اليهودي المريض الشاب الذي عاده بزيارة له قبل موته.
يقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِی مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ﴾ [القصص ٥٦]
فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ﴾ [القلم ٧].
فإذا كانت بيئة النبيينِ نوح ولوط ليستا سبباََ لهداية أقرب الناس لهما، فإن بيئة فرعون وشدة كفره وتأليهه لنفسه لم تكن حجة على زوجته التي علمت الحق فاتبعته على ضعفها وهي في بيت أكبر طاغية.
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِی عِندَكَ بَیۡتࣰا فِی ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِی مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِی مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [التحريم ١١]
وكثير من الناس يتذرعون بفساد بيوتهم أو أصدقائهم أوأهلهم وأزواجهم، ويضعون أنفسهم موضع الضحية التي لاحيلة لها في مخالفة بيئتهم، فتكون حجة لفسادهم، في حين كثير من الناس من يهاجر إلى بلاد الكفر والعصيان بحجة
أن لا تأثير لهم على دينهم لتعقلهم وشدة حرصهم على تعاليم دينهم، ونقول لهؤلاء وأولئك:
إن كل نفس بما كسبت رهينة، و كل سيأتي ربه فرداََ ليس معه قبيلته ولا عشيرته ليدافعوا عنه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وحري بالمرء أن ينقذ نفسه ويستنقذ من حوله.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة إذ أمره الله تعالى فقال: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ﴾ [الشعراء ٢١٤]
فقام معلناََ راية التوحيد غير آبه بما يواجهه من متاعب وآلام في سبيل نشر دينه، وهكذا يكون المسلمون من بعده دعاة لدينهم على علم وبصيرة من القرآن والسنة.
﴿قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ [يوسف ١٠٨]
وكذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تُلۡقُوا۟ بِأَیۡدِیكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة]
مخاطرة كبيرة أن يهاجر المرء إلى بلاد يكثر فيها الفساد والانحلال ليقيم فيها، ويثق بقلبه ألا يشوبه شيء من أدران تلك البيئة وفساد ذلك المجتمع.
الأسئلة الشائعة عن أثر البيئة على الإنسان
البيئة هي المكان والزمان والأفكار التي يعيش فيها المرء في وسط من الأفراد، يتأثر بأفكارهم ونمط حياتهم وتطلعاتهم.
تمثل الأسرة البيئة الأولى التي تحيط بالإنسان، تكسبه صفاته الخَلقية والخُلقية، وتزرع فيه معتقداته وأفكاره المتجذرة التي يصعب فيما بعد تقويمها أو تغييرها.
يشكل الأصحاب والمجتمع البيئة الأوسع للإنسان، ويتأصل تأثيرها بكثرة الجموع على فكرة أو معتقد يألفه الفرد الناشئ فيها، ويقوم بفعلها أو تقليدها تقليداََ أعمى من دون تفكير، وقد ذمها القرآن في أكثر من موقع:
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَاۤ أَلۡفَیۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ﴾ [البقرة ١٧٠]
إن البيئة سوية الخلق والدين لها أثر إيجابي في المجمل على أفرادها، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وإن الحالات الشاذة الخروج كنبتة ضارة إذا استُؤصلت لم ينتشر خرابها لبقية الأفراد.
الكاتبة: آ. رشا ميا
شارك المقال مع اصدقـائك: