fbpx

أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

لم تكن اللغة العربية مجرد رموز وكلمات ترصف وتُبين، إنما كانت روحاً تحيا، ونظاماً يزدهر، وبناء يتطاول. إنها لغة الذوق العالي، والدين الإلهي الباقي. ولم تنل أي لغة من المكانة ما نالته العربية، فقد أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، وسما بها، ورفع قدرها، وأعلى شأنها، إذ ارتبطت به، وحفظها، وهذبها، فهي دائمة بدوامه، كريمة لكرامته عزيزة لعزّته. وصدق الشاعر حين قال:

إن الذي ملأ اللغات محاسنًا ==== جعل الجمال وسرّه في الضادِ

لغة بها نزل الكتاب مفصلاً ==== فسمت به عن سائر الأنداد

جدول المحتويات

ميزات اللغة العربية عن سائر اللغات

تحدث الكثير من العلماء والمفسرين عن ميزات اللغة العربية عن سائر اللغات وتفوقها وحيويتها، وظهر أثر القرآن الكريم على اللغة العربية واضحاً، إذ جعلها الله تعالى أداة لإيصال كلامه إلى عباده، وبياناً للتشريع الإلهي إلى يوم القيامة.

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]؛

وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتُدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه”.

وقال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195]: “فإن لغة العرب أفصح اللغات وأوسعها لاحتمال المعاني الدقيقة الشريفة مع الاختصار، فإن ما في أساليب نَظَمِ كلام العرب من علامات الإعراب، والتقديم والتأخير، وغير ذلك، والحقيقة والمجاز والكناية، وما في سَعَةِ اللغة من الترادف، وأسماء المعاني المقيدة، وما فيها من المحسنات،

أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

ما يلج بالمعاني إلى العقول سهلةً متمكنةً، فقدَّر الله تعالى هذه اللغة أن تكون هي لغة كتابه الذي خاطب به كافة الناس، فأُنزل بادئ ذي بدء بين العرب أهل ذلك اللسان ومقاويل البيان، ثم جعل منهم حملته إلى الأمم تترجم معانيه فصاحتهم وبيانهم، ويتلقى أساليبه الشادُّون منهم وولدانهم، حين أصبحوا أمةً واحدةً يقوم باتحاد الدين واللغة كِيانهم”.

اللغة العربية قبل نزول القرآن

كانت اللغة العربية قبل نزول القرآن في الجاهلية متشعبة إلى لهجات كثيرة، ولكن كانت السيادة للهجة القرشية التي سادت لصفائها وعذوبتها وخلوها من مستبشع الألفاظ، وبها نزل القرآن الكريم.

يقول ابن فارس رحمه الله: “أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم، وأيامهم، ومحالهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قُطَّان حرمه، وجيران بيته الحرام، وولاته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم، يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم، ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم”.

وقد نقل السيوطي عن الفراء قوله: “كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات جميع العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ”.

ومعنى ما ذكره السيوطي: أن قريشاً كانت تنتقي من الألفاظ أفصحها، ومن التراكيب أسهلها، وقد أدَّى ذلك إلى أن تكون للغة قريش الغلبة على غيرها من اللغات، حتى أصبحت لغة عامة العرب، استعملتها القبائل المختلفة في نتاجها الأدبي من شعر، ونثر، وإن احتفظت كل قبيلة بخصائصها اللهجية، فيما يدور بين أبنائها من حديث يومي، ومن هنا تجلت حكمة الخالق -تبارك وتعالى- حين اختار هذه اللغة؛ لتكون لغة القرآن الكريم.

وقد خلت لغة قريش من تلك الخصائص اللهجية، وهي: الكشكشة، والكسكسة، والعنعنة، والفحفحة، والوكم، والوهم، والعجعجة، والاستنطاء، والوتن، والشنشنة. فهذه هي الخصائص اللهجية التي عُرفت عند بعض القبائل، وقد خلت منها لغة قريش. فكانت صافية عذبة خالية.

فظهر أثر القرآن الكريم في اللغة العربية حين هذبها من مستبشع الألفاظ وحفظ منها أفصح اللهجات وأرقى الكلمات.

اللغة العربية مع نزول الوحي

لقد كانت اللغة العربية مع نزول الوحي قد بلغت أوجها في الفصاحة والبلاغة وتنافس الشعراء على جودة النظم، وحسن البيان، وجمال السبك، فجاء القرآن متحدياً إياهم على أن يأتوا بمثله.

قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰٓى اَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْاٰنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه۪ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَه۪يراً}.

وبالرغم من تفوق العرب وفصاحتهم خارت الهمم ووهنت العزائم أمام أن يأتوا بسورة مثله، فعجزوا أن يأتوا بمثل قصار السور كالكوثر أو قريش، وهم أرباب الفصاحة والبيان حيث وقفوا أمام عظمته مذهولين وتركوا الأقلام كليلةً ليمسكوا مقبض السيف، ويختاروا المجابهة بالدم على التحدي بالقلم، فكان هو الخيار الوحيد لمقاومة الدين الجديد بالرغم من بلاغتهم وفصاحتهم، فهيهات هيهات أن يأتوا بمثله.

وصدق الشاعر حين قال:

جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَانصَرَمَتْ  ==== وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ

آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ  ==== يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ

وقد ظهر هذا الاعتراف بإعجاز القرآن الكريم وبلاغته على لسان بلغائهم كالوليد بن المغيرة الذي قال: “ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”.

وكانوا يسترقون السمع عندما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، ويستلذون بجميل بيانه حيث سحرهم وأخذ بألبابهم، فهدى الله منهم من هدى، وتخبط منهم في متاهات العمه من تخبط.

أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

لقد أثر القرآن في اللغة العربية تأثيراً عظيماً حتى قال بعض العلماء :”لولا القرآن لما كانت العربية، فما نشأت هذه العلوم التي استقامت بها العربية ونضجت إلا في رحاب كتاب الله ترتيلاً لآياته، وضبطاً لكلماته، ومعرفة لأحرفه ولغاته وإقامة لمبانيه وفهما لمعانيه وكشفاً لأسراره”.

ولقد توضّح أثر القرآن في اللغة العربية من خلال حفظها من الضياع.

حفظ اللغة العربية من الضياع والاندثار

لقد أثر القرآن في اللغة العربية حيث حفظها من الضياع، فكم من لغات قد ضاعت! وكم من أمم فقدت هويتها بتغير لغاتها! إنما اللغة هوية الأمة وسجلها وتاريخها ومجدها.

فاللغة خالدة بخلوده باقية ببقائه.

ويظهر أثر القرآن في اللغة العربية، إذ هذّبها، وجعلها لغة سامية كريمة، فقد زالت الكثير من المفردات الوحشية المستكرهة العصية، وأبقى على الكريم منها، واختار الأفصح.

وحّد اللهجات العربية، وجعلها في ضفيرة واحدة هي لسان قريش التي كانت من أصفى اللهجات.

وهذه اللهجات لولا القرآن لأصبحت لغات، ولضاعت العربية لأنه مع الزمن تتناكر اللهجات وتتسع، فيزاد الفارق بينها.

ومن طريف ما يحكى في تباعد بعض اللهجات العربية    أن أعرابياً دخل على ملك من ملوك ظفار -وهي بلدة من بلاد حمير باليمن- فقال الملك: ثب، فقفز قفزة. فقال له مرة أخرى: ثب، فقفز، فعجب الملك وقال: ما هذا؟ فقال: ثب يعني اقعد. فقال الملك: أما علمت أن من دخل ظفار حمر. (تاج العروس للزبيدي)

جاءت صور وتعابير مبتكرة في القرآن أغنت اللغة العربية، وقد أورد ابن عاشور الكثير منها في تفسيره، وسماها مبتكرات القرآن، وهي ما استعمله القرآن من الألفاظ والأساليب والتراكيب مما لم يرد في كلام العرب قبله، وذكر منها ابن عاشور قوله تعالى:

{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران: من الآية73)

قال ابن عاشور: “وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن”. وقوله تعالى:

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (لأنفال: من الآية1)

قال: “وأعلم أني لم أقف على استعمال (ذاتَ بين) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن”.

وقوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} (ابراهيم: من الآية9)

قال: “وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن”

وُضعت علوم لخدمة القرآن كان لها عظيم الأثر في خدمة اللغة العربية ووُضِعت أسس البلاغة والبيان وجماليات الإعجاز فيه وتناسق النظم والصوت، وكلها وإن كانت الغاية في وضع العلوم القرآن أساساً فقد عادت بالفائدة والنفع على اللغة ذاتها، ومنها علم النحو الذي ارتبط بقضية اللحن، فقد أخرج أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتاب (الوقف والابتداء) (ص: 241) وابن عساكر، في (تاريخه) عن ابن أبي مليكة قال: قدم أعرابي في زمان عمر.

فقال: من يقرئني مما أنزل الله على محمد؟

فأقراه رجل “براءة”، فقال: أن الله بريء من المشركين ورسوله بالجر.

فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه.

فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

قال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت: من يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة “براءة”، فقال: أن الله بريء من المشركين ورسوله، فقلت: أو قد برئ الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه.

فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي.

قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟

فقال: أن الله بريء من المشركين ورسولُه.

فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما ما برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب ألا يقرئ الناس إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.

ويظهر أثر القرآن في اللغة العربيّة جلياً حين جعلها تنتقل من المحلية إلى العالمية لأن القرآن الكريم جاء للبشرية جمعاء، والعربية لغة الدين ووسيلة لفهمه، يقول أ. د. نور الدين عتر: “وقد اتسع انتشار اللغة العربية جداً حتى تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل البخاري ومسلم، والنسائي، وابن ماجه القزويني، وغيرهم وغيرهم”.

المحافظة على اللغة دون تغيير

فنحن نفهم العربية، ونقرؤها، وننشدها كما أنشدها شعراء العرب وكما نطق بها النابغة وامرؤ القيس، نحن نقرؤها، ونتعلمها كما تعلمها الصحابة، بقيت ثابتة خالدة يعلم الآخر ما قاله الأول.

في حين أننا لو نظرنا إلى غيرها من اللغات كالإنجليزية والفرنسية والتركية وعدنا إلى ٤٠٠ أو ٥٠٠ سنة بها قبلاً لوجد أصحابها بل علماؤها صعوبة في فهم مقاصد ما كتبه الأدباء والشعراء لشدة التغير الذي طرأ عليها.

بينما اللغة العربية حافظت على أصولها بفضل القرآن الكريم، وإن وجد من العرب من لا يفهم ما قاله الأقدمون فبسبب تقصيرهم في تعلمها والإقبال عليها.

البلاغة في القرآن الكريم

أورد علماء اللغة والتفسير لطائف وجماليات بيانية في آيات الذكر الحكيم مظهرين بذلك أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، إذ درسوا مواطن الجمال والبلاغة في القرآن الكريم، فكانت مصدراً لتقعيد علم البلاغة في اللغة العربية من خلال بيان اللفتات البيانية، واستشفاف الأسس من ذلك النظم الكريم لذلك العلم.

ونورد فيما يلي بعض مواطن البلاغة في القرآن الكريم:

جمالية التقديم والتأخير

ومثال ذلك تقديم وتأخير الجن والإنس في آيتي الإسراء والرحمن:

قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء ٨٨)

وقال عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن ٣٣)

قدم في الأولى الإنس، وقدم في الثانية الجن لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته، والإنس في هذا المجال هم المقدمون، وهم أصحاب البلاغة وأعمدة الفصاحة وأساطين البيان، فإتيان ذلك من قبلهم أولى، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم.

أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية، وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في في السماء للاستماع، كما قال تعالى على لسانهم : {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} (الجن ٩)

فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس.

وقال تعالى في سورة النحل

{وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون}

التقديم: في قوله تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وتقديم الإراحة على السرح، مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال، وأتم في استجلاب الأنس والبهجة، إذ فيها حضور بعد غيبة، وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون، ملأى البطون حافلة الضروع.

البلاغة في استعمال الكلمة المناسبة في المكان المناسب فكل كلمة تعشق مكانها كما يقول البلاغيون

ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: {ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون}. (النساء ٨١)  فقال: “غير الذي تقول”، ثم قال: “والله يكتب ما يبتون” فجاء في أحد الموضعين بـ (الذي) والآخر بـ (ما)، وذلك أن أحد الموضعين أعرف من الآخر، فالذي يقوله أعرف مما يبتون لأن الأول معلوم عند المخاطب متفق عليه بخلاف ما يبيتون فإنه مجهول عنده إذ هو لا يدري ماذا يبتون، فجاء للأخص المعلوم بالذي والآخر بما.

ما جاء من الاستعارة التهكّمية في القرآن الكريم

وهي ما استعمل في ضد أو نقيض، نحو: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران 21)

أي: أنذرهم؛ استعيرت البشارة، وهي الإخبار بما يسر للإنذار الذي هو ضده بإدخال جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء، نحو: {إنك لأنت الحليم الرشيد} (هود ٨٧)

عنوا الغوي السفيه تهكماً.

وقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان ٤٩).

الكناية في قوله تعالى: {ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدًا بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ}

يقول ابن عاشور: “﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ﴾ ما أتَوْهُ مِنَ المَعاصِي سَواءٍ كانَ بِاليَدِ أمْ بِغَيْرِها بِقَرِينَةِ المَقامِ، فَقِيلَ عُبِّرَ بِاليَدِ هُنا عَنِ الذّاتِ مَجازًا كَما في قَوْلِهِ: ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة ١٩٥)، وكَما عُبِّرَ عَنِ الذّاتِ بِالعَيْنِ في بابِ التَّوْكِيدِ لِأنَّ اليَدَ أهَمُّ آلاتِ العَمَلِ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِها الأيْدِي حَقِيقَةً لِأنَّ غالِبَ جِناياتِ النّاسِ بِها وهو كِنايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الأعْمالِ. قالَهُ الواحِدِيُّ ولَعَلَّ التَّكَنِّيَ بِها دُونَ غَيْرِها لِأنَّ أجْمَعَ مَعاصِيها وأفْظَعَها كانَ بِاليَدِ فالأجْمَعُ هو تَحْرِيفُ التَّوْراةِ والأفْظَعُ هو قَتْلُ الأنْبِياءِ لِأنَّهم بِذَلِكَ حَرَمُوا النّاسَ مِن هُدًى عَظِيمٍ.

وإسْنادُ التَّقْدِيمِ لِلْأيْدِي عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ حَقِيقَةٌ وعَلى الوَجْهِ الثّانِي مَجازٌ عَقْلِيٌّ”.

وجاء في تفسير القرطبي

لقوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين}.

قال: حكى الأصمعي قال: سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول :

أستغفر الله لذنبي كله ==== قتلت إنسانا بغير حله

مثل الغزال ناعما في دله ==== انتصف الليل ولم أصله

فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه…} الآية، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

الخاتمة

وهكذا نجد من خلال بحث ما سبق عظيم أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، إذ ما يزال منبعاً يفيض بالعلم والبيان والحكمة، وتقف الكلمات أمام تصوير بلاغته حائرة، وينهل كل طالب من عيون آياته بحسب ما فتحه الله عليه من نور الحكمة، فسالت أودية بقدرها، فمنهم يستقي من فيضه، ومنهم من يرشف من عذب فراته، ومنهم من يناله البلل، ومنهم من لا حظ له من هذا الفيض العظيم، وذلك هو الخسران المبين.

الأسئلة الشائعة عن أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

ما معنى كلمة القرآن في اللغة العربية؟

القرآن في اللغة: مصدر قرأ بمعنى (تلا)، أو بمعنى (جمع)، ومنه القرية لأنها تجمع السكان، تقول: قرأ قرءاً وقرآناً، كما تقول: غفر غَفْراً وغٌفراناً، فعلى المعنى الأول (تلا) يكون مصدراً بمعنى اسم المفعول؛ أي بمعنى (متلوّ)، وعلى المعنى الثاني: (جَمَعَ) يكون مصدراً بمعني اسم الفاعل؛ أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام.

لماذا اختار الله اللغة العربية للقرآن؟

لأنها تتّسم بخصائص ومميزات لا توجد في لغة أخرى، فاللغة العربية من أغنى اللغات، وأعذبها منطقاً، وأسلسها أسلوباً، وأغزرها مادة، وهي وسيلة التفاهم مع القوم الذين أرسل إليهم الرسول، وبدأت الدعوة في محيطهم قبل أن تبلغ لغيرهم، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}.

هل القرآن كله عربي؟

يقول الدكتور فاضل السامرائي مجيباً عن هذا السؤال: “الكلمات التي في أصولها غير عربية دخلت العربية، واستعملها العرب قبل الإسلام بزمن طويل، ودخلت في لغاتهم وأعربوها وخضعت للقواعد وأصبحت عربية في الاستعمال”.

ما أهم الكتب التي تتناول الناحية البلاغية في القرآن الكريم؟

تفسير التنوير لابن عاشور، ونظم الدرر للبقاعي، روح المعاني للآلوسي، والكشاف للزمخشري، وصفوة التفاسير للصابوني.

ما الكتب التي تتناول تفسير القرآن بشكل ميسر؟

تفسير السعدي، وتفسير الصابوني، وتفسير البغوي.

الكاتبة: آ. هيفاء علي

شارك المقال مع اصدقـائك: