العشر الأواخر من رمضان
حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على اغتنام العشر الأواخر من رمضان المبارك، وخصها بمزيد من العمل مع الجد والاهتمام والمثابرة، فما واجبات المسلم في العشر الأخير؟ وماذا يُندب له؟
هذا ما سنعرفه في هذا المقال.
حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان
جِدُّه صلى الله عليه وسلم واجتهاده في العشر الأواخر من رمضان:
روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره”.
– عبادته -صلى الله عليه وسلم-: جاء في الحديث المتفق عليه عن السيدة عائشة -رضي الله عنها قالت-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ”.
وهذه كلها علامات التشمير ومضاعفة العمل؛ قال الحافظ في فتح الباري: “في الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأخير إشارة إلى تجويد الخاتمة ختم الله تعالى لنا بخير، آمين”.
– وأما اعتكافه -صلى الله عليه وسلم-: فقد جاء أيضاً عن عائشة -رضي الله عنها-: “أنَّ النبي ﷺ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده”.
وظائف أهل الإيمان في العشر الأواخر من رمضان
يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة العملية في كل الأحوال والأوقات خاصة في فواضلها، ومما سبق من أحواله -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن نفهم ما الأعمال المندوبة في العشر الأواخر:
١- الحرص على الاجتهاد في الطاعات في العشر الأخير
إذ يمكننا أنْ نَعِي من انكماش النبي -صلى الله عليه وسلم- في العبادة ومزيد إقدامه عليها أنّ هذه العشر هي زُبدة هذا الشهر وأعظمه الباقية بعد ذهاب معظمه، وشد المئزر الوارد في الحديث آنف الذكر -الذي في صحيح مسلم- كناية عن اعتزال النساء والتشمير للعبادة.
قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: “إنَّ الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك، فإنّما الأعمال بالخواتيم”.
٢- سنية الاعتكاف والمواظبة عليها
والاعتكاف هو المكث في المسجد قبيل غروب الشمس بنية مخصوصة، قال تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، ولم يزل كذلك حتى توفاه الله تعالى، فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم -كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: “كَانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْماً”.
وقد أجمع العلماء بدلالة هذه الأحاديث الشريفة على أن الاعتكاف سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان لمواظبة النبي -عليه الصلاة والسلام- عليه.
وسنذكر فيما يلي: فضل الاعتكاف، وأعمال تعدل أجر الاعتكاف، والاعتكاف الجزئي.
أ- بيان فضل الاعتكاف
جاء عند البيهقي أنه رُوي عن علي بن حسين، عن أبيه -رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: “من اعتكف عشراً في رمضان كان كحجتين وعمرتين”.
وعند ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله
قال في المعتكف: “هو يعكف الذنوب، ويُجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها”.
ب- أعمال تعدل أجر الاعتكاف
قد يتعذر على المسلم أن يبقى في المسجد عشرة أيام متواصلات لسبب ما، ولكنه يرنو لنيل أجر الاعتكاف، والشرع الحنيف وسع على الناس رحمة بهم ودفعاً للمشقة عنهم، فشرع لهم ما ينالون به أجر المعتكف؛ ألا وهو قضاء حوائج الخلق؛ روى الطبراني في الأوسط، والبيهقي واللفظ له، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاه رجلٌ فسلّم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: نعم يا ابنَ عمّ رسول الله لفلان علَيّ حقّ ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه. قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ فقال: “إنْ أحببت”، قال: فانتعل ابنُ عباسٍ ثم خرَج من المسجد.
فقال له الرجل: أنسيتَ ما كنتَ فيه؟ قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم- والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول: “مَن مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاءَ وجهِ الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق، أبعد مما بين الخافقين”.
روى الطبراني عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سُرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دَيْناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولَأَنْ أمشي مع أخٍ في حاجة أحَبّ إليّ مِن أن أعتكف في هذا المسجد شهراً، ومَن كفّ غضبَه ستَر اللهُ عورتَه، ومَن كظم غيظه -ولو شاء أن يمضيه أمضاه- ملأ الله قلبَه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجته حتى يتهيأ له أثبت الله قدمَه يوم تزول الأقدام”.
ج- الاعتكاف الجزئي
وهذا بديل لمن لم يستطع أن يعتكف اعتكافاً كاملاً، وهو أن يمكث في المسجد ولو لحظة أو أن يمضي جل أوقاته فيه مع النية، وهذا مذهب جمهور العلماء، روى ابن أبي شيبة عن يعلى بن أمية الله قال: “إني لأمكث في المسجد الساعةَ وما أمكث إلا لأعتكف”.
٣- دفع صدقة الفِطر
روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أوعبد، ذكر أو أنثى من المسلمين، وفي رواية: على الصغير والكبير.
فهي واجبة على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد حتى أنها تجب على اليتيم في ماله إن كان له مال، أو على من تلزمه نفقته.
أما حِكمتها فقد بينها النبي عليه الصلاة والسلام؛ روى أبو داوود وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات”.
قال الإمام الخطابي -رحمه الله تعالى-: “وقد عُلِّلَت بأنها طُهرة للصائم من الرفث واللغو، فهي واجبة على كل صائم ذي جِدَة ويُسر، أو فقير يجدها فضلاً عن قوته، إذ كان وجوبها عليه بعلة التطهير، وكل من الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة، اشتركوا في الوجوب”.
وصدقة الفطر مثل سواها من الفرائض موقتة بوقت، ومقدرة بمقدار.
أما وقت وجوبها: فهو غروب الشمس من ليلة عيد الفطر عند الشافعية والحنابلة، وبطلوع فجر يوم الفطر عند الحنفية، ويجوز تقديمها في جميع رمضان كأَن تُدفع من أوله.
وأما مقدارها: فقد بينها الحديث الشريف الذي رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: “كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من أقِط، أو صاعاً من زَبيب”.
٤- تحري ليلة القدر
إن هذه الليلة المباركة أشهر من أن تُعرَّف، وأغنى من أن توصف، فقد أفرد الله تعالى لها سورة كاملة في كتابه فقال: {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ (١) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ (٢) لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ (٣) تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ (٤) سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ (٥)}
فمن مزاياها أنها الليلة التي أُنزل فيها القرآن، والعمل فيها خير من العمل ألف شهر؛ أي تقريباً ٨٣ عاماً وأربعة أشهر، وهي ليلة تنزل فيها الملائكة ومعهم جبريل -عليه السلام- إلى السماء الدنيا ويُؤمِنّون على دعاء الناس إلى طلوع الفجر، وسنذكر فضلها وتعيينها وكيفية الدعاء والقيام فيها:
أ- فضل ليلة القدر
في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: “مَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: لما حضر رمضان قال رسول الله ﷺ: “قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرِم”.
ب- تعيين ليلة القدر
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحىٰ رجلان من المسلمين، فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فَرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”، وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد أنّ رسول الله قال: “يا أيها الناس إنها كانت أُبينَت لي ليلة القدر، وإني خرجتُ لأخبركم بها فجاء رجلان يَحتَقَّان و معهما الشيطان فنسيتُها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: “تحَروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان”.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: “أرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين وأرجاها عند الجمهور ليلة “سبع وعشرين”.
ج- كيفية قيام ليلة القدر والدعاء فيها
قال الإمام النووي: “يُسن الإكثار من الصلاة فيها والدعاء، والاجتهاد في ذلك وغيره من العبادات فيها، ويستحب إحياؤها بالعبادة إلى مطلع الفجر”.
وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إنْ علمتُ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: “اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني”، قال الترمذي: “حديث حسن صحيح.”
خاتمة
بعد أن تبين مما سبق كل هذا الفضل في الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، وما فيها من فضائل وخير كثير وفير حريٌّ بالمسلم أن يغتنم ولا يحرم نفسه، ويعد زاده ليوم الرحيل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الأسئلة الشائعة عن العشر الأواخر من رمضان
أ- يجتهد في العبادة
ب- يعتزل النساء
ج- يعكتف في المسجد
١ً- نجتهد وننوع في العبادات ونستكثر منها.
٢ً- نعتكف في المسجد.
٣ً- نتحرى ليلة القدر.
٤ً- ندفع صدقة الفطر.
– هي آخر عشرة أيام منه.
– من ليلة ٢٠ رمضان إلى مغيب شمس اليوم الذي قبل العيد.
– بالإكثار من الصلاة فيها والدعاء، والاجتهاد في ذلك، وغير ذلك من العبادات.
– نعم، كدعاء ليلة القدر: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
– سنة مؤكدة.
– كان رسول الله ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ، وكان يعكتف العشر الأواخر حتى توفاه الله تعالى.
– تكون الأنوار ساطعة في كل مكان حتى في المواضع المظلمة، ويُستجاب فيها الدعاء، وشمس يومها تكون بلا شعاع.
– نعم بدليل: اعتكاف أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من بعده؛ عن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
قيل في سبب تسميتها أقوال أقربها: إنها من القَدْر، بمعنى التعظيم؛ أي الليلة ذات القدر العظيم، الذي فاق ألف شهر لنزول القرآن فيها، ولتنزل الملائكة وحلول الخيرات والبركات والسلام على العالم فيها، كما تفيد ذلك سورة القدر.
أفاد ذلك الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تعالى.
– الحكمة من ذلك كما في فتح الباري: ليحصل الاجتهاد في التماستها بخلاف ما لو عُيِّنَت لها ليلة لاقتُصر عليها كما في ساعة الجمعة.
نعم يجوز وهو الأصلح في زماننا.
الكاتب: أ. بشار حمو
شارك المقال مع اصدقـائك: