fbpx

اللغة العربية في المهجر (الأَصلُ عربيّ واللّسانُ أَعجميّ)

تُعدّ اللّغة العربيّة من اللغات العالميّة السّائدة والمُنتشرة، وذلك لِمَا لها من أهمية تاريخيّة عريقة، والأهم هو أهميتها الدّينيّة، فهي لغة القرآن الكريم الذي أُنزِلَ على الرّسول الكريم عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف 2)

يقول ابن كثير الدمشقي في تفسيره لقوله تعالى في هذه الآية: “وذلك لأنّ لغة العرب أفصح اللّغات، وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنّفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللّغات على أشرف الرّسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتُدِئ إنزاله في أشرف شهور السّنة وهو رمضان، فكَمُل من كلّ الوجوه”.

جدول المحتويات

الفرق بين اللسان واللغة

إنّ المقارنة بين الآراء القديمة والحديثة تدل على اتساع مفهوم اللسان وشموليته عن مفهوم اللغة، فاللسان هو الآلة المحركة للاتصال الذي يجري من خلال معابر مجردة في الذهن البشري تُسمى اللغة؛ وبذلك فإنّ تعبير القرآن عن اللّسان كان معجزًا، كما قال الله في كتابه الكريم: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ (الشعراء 195)

أمّا اللغة فهي نظام من العلامات أو الرموز، هذا هو الأساس الثالث عند (سوسير)، واللغة العربية هي رمز الإسلام والمسلمين، وإنّ الله تعالى أنزل القرآن باللّغة العربيّة وأمر النّبي عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم بتبيلغ القرآن والسّنّة باللّغة العربيّة.

واللّسان العربي واللّسان الأعجمي تجمعهما لغة قرآنيّة سماويّة.

تعلّم اللّغة العربيّة واجب شرعي

اللغة العربية في المهجر (الأصل عربي واللسان أعجمي)

ذهب الفقهاء إلى أن تعلّم اللغة العربية واجب شرعي على اختلاف بينهم في مقدار الواجب الذي يجب تعلّمه منها، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي فيما نقله عنه الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول): “يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جَهده في أداء فرضه”.

بينما ينقل عن الإمام الماوردي قوله: “ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره”.

وكذلك ينصّ ابن تيمية بوجوب تعلم العربية فيقول في (اقتضاء الطريق المستقيم): “إن نفس اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، لكنّه يرى أنّها فرض على الكفاية لا العينيّة، إذ يقول في مجموع الفتاوى: “معلوم أن تعلم وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فتُحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً”.

وقد أشار كثير من العلماء على أهمية اللغة العربية بالنسبة للمسلمين، وتراوحت آراؤهم بين وجوب معرفة ما يكفي لأداء الفرائض العينية على الأقل، ووجوب معرفتها على الوجه الأكمل، وخاصة لطالب العلم في العلوم الشرعية.

لقد اختار الله هذه اللغة لتكون وسيلةً لوحيه حتى نفهمها، ولكل من يؤمن بذلك سبب كافٍ للرغبة في الغوص فيها، كلٌّ حسب قدرته، والجيل الناشئ في المَهجَر حالهم كَحال من هم في وطنهم الأم من العرب المكلّفين بتعلّم اللّغة العربيّة بالقدر الذي يستطيعه، فَليس من المعقول أن ينشأ جيل بفطرة عربيّة ولسان أعجميّ، ويكتب حروف وكلمات لغته الأم بحروف لاتينيّة.

الأسباب التي تعد الدافع لتعلم العربية عند المسلم

فرض كفاية وفرض عين

إن معرفة المفاهيم الأساسية للغة العربية، وحفظ أجزاء من القرآن الكريم من متطلبات الإيمان؛ فمثلاً كان رأي الإمام الشافعي هو:

“يجب على كل مسلم أن يتعلم من اللغة العربية ما يعينه على بذل الجهد في أداء فرائضه” (إرشاد الفحول ص421).

والذي نفهمه من هذا الكلام من شيخ الإسلام أنه يجب على كل مسلم أن يعرف على الأقل القليل من اللغة العربية التي تمكنه من القيام بواجباته الدينية.

يقول ابن تيميّة: “فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها واجبة، لأن فهم الكتاب والسنة واجب، ولا يفهم الدين إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم من ذلك ما يجب على كل أحد على حدة، ومن ذلك ما هو واجب على الكفاية”.

إن ما يشير إليه ابن تيمية هو أن معرفة القليل من اللغة العربية قد تكون كافية للقيام بالواجب، ولكن من الواجب على الكفاية أن يدرسها المسلم ويتعمق فيها لأنها من متطلبات فهم الدين فهماً صحيحاً.

لا بُدّ من فهم القرآن والسنة

وهذا السبب الثاني يبنى على ما سبق، ويبدو واضحاً تماماً، ولكنه يتضمن المزيد مما قد يبدو في البدء.

نزل القرآن باللغة العربية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بها.

والطريقة الوحيدة التي نستطيع بها الوصول إلى هذه المعرفة بشكل مباشر هي أن نتقن اللغة، وهذا ليس مهماً لطالبي العلوم الشرعية فقط، بل إلى حد ما للجميع، فهو يسمح لك بقراءة كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم دون ترجمة.

ونحن نعلم طبعاً أن ذلك لا يعني أنك تستطيع أن تستنبط منه الأحكام الفقهية، لأن ذلك يحتاج إلى علم أشمل يشمل فروعاً أخرى، ولكنك تجد فيه الطمأنينة والهداية.

يقول الله تعالى: {ألا بِذِكْرِ ٱللَّه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

ويقول: {شهْرُ رَمَضَانُ الَّذِى* أُنزِلُ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّناَتٍۢ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}

بمعنى: شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدًى للبشرية وبينات من الهدى والميزان للتمييز بين الحق والباطل.

إن تعميق معرفتنا باللغة العربية سيزيد من فهمنا للقرآن والأحاديث وسيزيد من هدايتنا وطمأنينتنا.

التفكّر بالقرآن

روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: “تعلموا العربية فإنها تقوي العقل وتزيد في المروءة ” (البيهقي، شعب الإيمان ج4 ص187).

ذكرنا من قبل أننا بحاجة إلى اللغة للتفكير.

وكلما زادت معرفتنا باللغة تمكنا من التعبير عن أنفسنا بها بشكل أفضل، وكانت أفكارنا أكثر تفصيلاً.

وإذا تعلمنا اللغة العربية فإننا نتعلم لغة القرآن، وهذا يعني أننا سنفهم المفاهيم والمصطلحات بشكل أفضل، وسنكون أكثر قدرة على استخدامها، وكلما تمكنا من استخدامها أكثر أصبحت أفكارنا أكثر تفصيلاً.

وبهذه الطريقة تتعزز قدراتنا العقلية،

وكلمة العقل الواردة في اللغة العربية كثيراً هي الفقه كما في الحديث: “مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ”.

إن معرفة اللغة العربية تساعدنا على تعميق فهمنا للقرآن والسنة، وذلك يقوي عقلنا وفهمنا للدين.

والعقل القوي يدرك أن المعرفة تتطلب العمل بهذه المعرفة، وهذا يعني أنه بالتفكير بالقرآن والسنة يمكننا أن نعمل بالقرآن والسنة.

تجميل نفسك

اللسان هو الوسيلة التي نعبر بها عن عالمنا الداخلي للآخرين، فنحن نعبر عن معرفتنا ومعتقداتنا ورغباتنا ومخاوفنا.

إنه اللغة التي نتواصل بها، وإذا كان لباسنا من الوقار والتواضع فإن الكلام الصحيح من التجمل.

وأيُّ ثوب أجمل من لغة القرآن الكريم ولغة النبي صلى الله عليه وسلم؟

اللغة العربية في المهجر

هنا في بلاد المهجر تواجه الأجيال النّاشئة الكثير من الصّعوبات بِمَا يخصّ تعلّم اللّغة العربيّة، فإذا كانت اللّغة العربيّة هي اللّغة الأم للوالدَين فستصبح المهمّة أسهل والصّعوبات تتلاشى.

والنّقطة الأهمّ أن يكون هناك انتماء واعتزاز حقيقي لدى الوالدَين بِلغتهما الأم، فَيؤدّي ذلك بطبيعة الحال إلى انتقالٍ سلسٍ وعذبٍ إلى الأبناء وبطَواعية أيضاً، فخير معلّم للمرء هو المثال الحي والنموذج العمليّ والأسوة المثاليّة، والأبناء بطبيعة الحال مرايا آبائهم وأمهاتهم.

فلا بدّ أن يعلَم الآباء العرب ـ لا سيما المقيمون في المهاجر غير العربيةـ مكانة اللغة العربية، فيستحضروا قيمتها في أنفسهم وفي أحاديثهم مع أبنائهم، ويستحضروا أقوال أئمة اللغة والشرع في مكانة العربيّة لتعزيز مكانتها في نفوس الأجيال، ومن ذلك ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم): “اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون”.

وفي هذا السياق، فإن المصاعب تزداد مع أولئك الأطفال الذين نشؤوا وكبروا في بلاد المهجر، فصارت لغة المكان لغة المدرسة لديهم هي لغة الحياة، فهي الأمكن في عقولهم والأسهل جرياناً على ألسنتهم، وبها يعبرون عن ذواتهم ويعكسون كثيراً مما يتمتعون به من صفات شخصية خاصة، وهنا نقع فعلياً بمأزق حقيقي

ولا بد أن يتنبه الأبوان إلى هذه النقطة جيدًا، فاللغة التي يفكر بها المرء هي اللغة الأقوى حضوراً في ذهنه ونفسه، وهي لغة أحلامه وتصوراته، ولغة حديثه ونجواه مع نفسه، ولغة انفعالاته كذلك، فعندما يغضب الطفل سيعبّر عن غضبه باللغة الأقرب إلى نفسه، وهي اللغة التي يتعرض لسماعها أكثر، ويمارس الحديث بها بالضرورة، فتصبح الأكثر هيمنةً على عقله ولسانه، وغالباً ما تكون لغة الدراسة هي المهيمنة.

لذلك يجب الحذر ممّا لا بدّ منه، فمعظم الأهالي في بلاد المهجر يواجهون التحديات نفسها، ويعانون من المشكلات نفسها، غير أن هناك مَنْ لا يُبالي ولا يُلقي بالاً لأهمية اللغة العربية مع عدم الحرص على تعلّم أولادهم إيّاها، وهذا بحدّ ذاته مشكلة كبيرة أخرى سيواجهها الأبناء حين يكبرون بأراض مختلفة وظروف بيئية وثقافية بعيدة عنهم، فالانتماء لديهم عربيٌّ إسلاميّ، لكنّ اللّسان أعجمي.

تعدُّ السنوات الخمس الأولى من عمر أيّ طفل هي أهم المراحل العُمريّة التي يمرّ بها من أجل اكتسابه أي لغة وجعلها اللغة الأم لديه، فهي سنوات التأسيس اللّغوي، وهو ما يعني أنّ الأطفال الذين يولدون في بلاد النزوح والمهجر يكتسبون لغتهم الأم من ذويهم بالدرجة الأولى، وواجب الأبوين اللذَين يشعران بعظم المسؤولية أن يوفرا للطفل هذه المساحة اللغوية، وذلك بالتعرض لها من المحيط الصغير، وباستعمالها مع الطفل ومخاطبته بها.

فإن استطاع الأبوان فعل ذلك وتوفير هذه البيئة اللغوية السليمة للطفل فقد قطعا شوطاً كبيراً معه، وسيكون تلقيه لأي لغة يتعلمها بعد ذلك تلقي اللغة الثانية التي سيعالجها ويحاكمها ويقارنها في ذهنه على الدّوام بلغته الأم.

وهنا سؤال مهم يجب طرحه، ألا وهو:

كيف أستطيع إيصال اللّغة العربيّة إلى الجيل النّاشِئ في المهجَر، وتَحبيبهم بها؟

على أساس ما ذكرنا قبل قليل تأتي الإجابة بأنّه يجب التركيز على ربط الأبناء باللّغة العربيّة وتحبيبهم بها وتشويقهم إليها بالدّرجة الأولى، وتحفيزهم وتشجيعهم للإقبال على تعلّمها ومساعدتهم والأخذ بأيديهم نحو إتقانها من خلال شيء أساسي يأتي كَنقطة هامّة وأساسيّة بأنْ نشجّعهم على أنّ تعلّم العربيّة سوف يأخذنا بكل سهولة إلى قراءة القرآن الكريم وفهم معانيه، وتعلّم أداء الصّلاة نتيجة تعلّمنا لآي القرآن الكريم، ولن يتحقق ذلك بسهولة إن لم تكن العربيّة لغة الأبوين في المنزل، إذ يقع على عاتقهما تفعيل استعمال اللّغة العربيّة في البيت على أقلّ تقدير، ليتعرض الأولاد للغة بالسماع ويتلقونها بحبٍ وعذوبةٍ حين تجري على لسان الأبوين في خطاب الأبناء ومحاوراتهم، وفي الجلسات التي تجمعهم معاً لتصبح لغة العقل والقلب معًا .

ولا بد من تدعيم فكرة السّماع بوصفه الحل الأفضل لتلقي اللغة وتعلّمها، وذلك عن طريق مشاهدة البرامج المحببة للأطفال أو الناشئة، وتحديداً تلك التي تتحدث بلغة عربيّةٍ فصيحةٍ وعذبةٍ واضحةٍ لا تعقيد فيها.

وقد يتطلب الأمر تفعيل القنوات العربيّة التي تعتني باللغة وتهتم بفصاحتها في البرامج التي تعرضها، فيغدو السماع غير المتعمد أيضاً وسيلةً لخلق الألفة بين الأبناء واللّغة العربيّة، وكذلك الاستماع إلى القرآن الكريم وتعلّمه، فقراءته وفهمه وإتقان تلاوته الغاية الأسمى لدى كلّ من يعبأ بدين أبنائه وتنشئتهم على تعاليم الإسلام وتقوية الانتماء إليه والاعتزاز به، ولا ضَير في أن يكون لوسائل التّواصل الاجتماعي دور في ذلك، فمن خلالها يتعلّم الطّفل لغته الأم بشكل سليم من أبناء اللّغة أنفسهم، فيأخذ اللغة منهم سليمةً وفصيحةً، وفي الوقت نفسه يتعلّم كيفيّة استخدام وسائل التّواصل الاجتماعي بطريقة صحيحة ومفيدة.

فوائد تعلّم اللّغة العربيّة بشكل عام ولِمَنْ نشأ في المهجَر

حثَّ العلماءُ على تَعَلُم العربية وآدابها لِمَا ينعكس على صاحبها مِنْ فصاحة اللسان، وبلاغة البيان، وحُسن وتركيب الكلام، فضلاً عَنْ فهم الدين وجمال الخلق، فهي تؤثر في العقل والدين والخُلُق؛ فأولوها اهتماماً كبيراً لا يقل عن اهتمامهم بالعلوم الشرعية، فهي آلة ووسيلة لفهمها، والدليل على ذلك هو تأليفهم الكثير من الكتبِ والمجلدات في اللغة العربية وآدابها.

فيروى عن الشافعي أنه قال: ” أقمت في بطون العرب عشرين سنة، آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن فما علمت أنه مَرّ بي حرفٌ إلا وقد علمت المعنى فيه”.

وقال الثعالبي في باب مدح اللّسان: “كان يقال: ما الإنسان لولا اللّسان إلا صورة ممثّلة، أو ضالة، أو بهيمة مرسلة “.

وقال بعض الحكماء: “المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق ببيان، وإن قاتل بجنان”، وقال الجاحظ: “اللسان أداة يظهر به البيان، وشاهد يعبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، وواعظ ينهي عن القبيح، ومبشر ترد به الأحزان، ومعتذر تذهب به الأضغان، ومله يونق الأسماع، وزارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل العداوة، وشاكر يستوجب المزيد، ومؤنس يسلي الوحشة”. 

ويقال: “المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه!”.

وقال بعض العلماء: “للسان فضائل معدومة في الجوارح، ودرجته عالية على درجاتها، لما خصه الله به من النطق والبيان وأنطقه بالذكر والقرآن، اعلم أن كمال العالم هو الإنسان، وكمال الإنسان هو اللسان، وجماله هو البيان”.

نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عمّه العبّاس رضي الله عنه فتبسم، فقال له: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ فقال: “أعجبني جمالك يا عم”، فقال: أين موضع الجمال مني؟ فأشار إلى لسانه، وقال أيضاً عليه الصّلاة والسّلام: “جمال الرجل فصاحة لسانه”.

وبالنّسبة لمن نشأ في المهجر أو الأجانب الراغبين بتعلم العربية، فإن ذلك سيأتي عليهم بالنفع الكبير والعظيم مستقبلاً؛ وذلك بأن الاختصاصات المرموقة من مثل: العلاقات الدبلوماسية تتطلب معرفة اللغة العربية، وكذلك الهندسة وغيرها. وبالتالي، فهي تسهل الحصول على فرص عمل مستقبلاً، وتتيح الانفتاح على العالم معرفياً واقتصادياً.

والجوهر الأساس والمهم هو أن اللغة العربية مفتاح للأمان المستقبلي للطفل ضد التحولات والقرارات السياسية التي تتحكم بمصير أطفال اللاجئين.

أهميّة اللّغة العربيّة في المهجر

اللّغة العربيّة لها قيمة ومنزلة تربويّة عظيمة انبثقت مِنْ مكانتها العظيمة التي اختصت بها وتميَّزت، ففي بلاد المهجر لها قيمة -كما ذكرنا آنفًا- وهي: فهم القرآن وتعلمه وقراءته بشكل سليم فصيح والتعرف على تعاليم ديننا، وكذلك مالها من أهميّة مستقبلاً خصوصاً لمن نشأ في المهجر وأصبح يتحدث بلغة البلد الذي هاجر إليه وتعلمها وأتقنها للتأقلم والاندماج، وكذلك اللغة العربية لمن تعلمها منهم سيكون له الشأن الكبير الذي كنا بصدده قبل قليل.

وللغة العربية آثار تبقى ولا تزول، فمِنَ الآثار الخلقية للغة العربية التمسك بِأهداف الشريعة الإسلامية، وهو أول أوصاف الأخلاق الحميدة للفرد، فللمُتَمَعِن في اللغة العربية وفروع علومها يجد أنَّها وعاء عميق للتربيةِ الخلقيةِ، وهجر للرذائل السلوكية، وَأَنَّ العناية بِها عِنايةٌ بالأخلاقِ والسلوك، وأَنَّ رعايتها رعاية للتربيةِ الخلقية؛ إذ إنَّ لها أثَراً عظيماً وفاعلاً في بث الفضائل الخلقية،

وَمِنْ خلال البلاغة اللفظية التي تَمَيَّزت بها اللغة العربية يستطيع الكاتب أو الداعية أنّ يثير بالنثر الجميل أو الشعر البديع التأمل في آيات الله الكونية، وما أودعه الله فيها مِنْ جمال وإعجاز وأسرار، ومِنْ آثارها أيضاً الحث على مكارم الأخلاق، وللغة العربية آثار تربوية عظيمة في اكتساب الفضائل الخلقية وهجر الرذائل السلوكية، وذلك بما اشتمل عليه الأدب النثري والشعري من حث على مكارم الأخلاق.

تعدّ اللغة الوعاء الذي يحتضن ويحمل العلم، ويُنْتَقَلُ بهِ منْ مَكَان إلى مَكَان، وَمِنْ زمَن لآخر، ولولا نعمة اللغة التي امتَّنَ الله بها على عبادهِ لما توارثت الأمم حضارات غيرها، واستفادت مِن عِبَرِ الأحداث، وما تفتقت عنهُ عقول العقلاء في كل فن وعِلْم.

فهي لغة القرآن الكريم، ولغة خاتم الأنبياء والمُرسلين، تغيرت اللغات واندثرت أخرى، وهي ثابتة في نمو وازدهار، تأثرت بالفصحاء في جمال تركيب وحسن البيان، وأثرت في البلغاء، فأمدَّتهم بأجمل الكلمات وأفصح الألفاظ، حتى وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً، وما ضاقت عَنْ آية بهِ، ونلحظ أنَّ بهذه اللغة صاغ العرب الحِكَمَ والأمثال، ونَظموا الأشعار وتحدثوا بأعذبِ العبارات، وأجمل الألفاظ، متأثرين بلغتهم العربية التي صنعت فيهم التَمَدُّن الفكري والذوقي.

يقول مصطفى صادق الرّافعي: “ولكننا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدُن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعا متحققة، فهي مِنْهُم بحر الحياة”.

توجيهات لابُدَّ منها

إنَّ وجود الاستقرار والأمن الرّوحي لأبناء المهجر يتطلب رعاية اللّغة العربيّة وصيانتها على ألسن الأطفال، فهم الجيل الجديد، الحامل للعروبة في الغرب، ويجب أن يكونوا على قَدر من المسؤولية كمن سبقهم من الآباء والأجداد.

لذلك نقدّم بعض التوجيهات التي تساعد أبناء المهجر على تدريس اللّغة العربيّة لأبنائهم، ومن ذلك:

  1. لا بُدّ من حضور اللّغة العربيّة في المنزل، وتوظيفها في كل السياقات التواصلية داخل الأسرة، للتعبير عن الحاجات والمشاعر والأحاسيس…، وفي ذلك تقريب للغة العربية إلى الأطفال لكي يعتادوا عليها ويتعلموها ويتقنوها فيبرعوا في استخدامها، ولعل العاميات العربية أيضاً لها باع واسع من اللغة العربية في مفرداتها وألفاظها ودلالاتها.
  2. استثمار البرامج الفنية العربية بأشكالها المختلفة، وتوظيفها لاكتساب اللغة العربية والتواصل بها، ومن ذلك برامج الأطفال (أفلام الكارتون) والبرامج الوثائقية والدينية والعلمية… وترصد الوفود العربية على هذه البلدان، سواء للتنشيط الثقافي والمسرحي، أو العلمي والأكاديمي في الجامعات التي أصبحت تخصص جانباً من التقدير للغة العربيَّة، وهذه البرامج من شأنها إغناء الرصيد اللغوي لأطفالنا العرب في المهجر.
  3. الحرص الشّديد على تسجيل الأبناء في المؤسسات التي تُعنى بتدريس اللّغة العربيّة، سواء كانت عن قربٍ إذا توفرت في مكان إقامتهم، أو عن بُعدٍ في حالة انعدام مدراس تعليمية خاصّة باللّغة العربيّة، ولعل الساحة الإلكترونية مليئةٌ بدروس تعليم اللغة العربية سواء للناطقين بها أو بغيرها، كما أنَّ كثرةَ زيارة المساجد يوطّد علاقات الأطفال باللّغة العربيّة وبالأصدقاء العرب.

الخاتمة

لا بُدّ من التأكيد على أن العربيّة ركن أساسي في غرس الثقافة العربية والإسلامية لدى الطفل العربي المقيم في بلاد المهجر.

إنّ اللغة تاريخ وجذور وروح، وليست مجرد أصوات فقط.

يقول الإمبراطور الروماني شارلمان: “التمكن من لغة أخرى هو بمنزلة الحصول على روح ثانية”، روح تبدأ من لحظة انسياب الأفكار مع حركة الأصابع والقلم من اليمين إلى اليسار، روح تتجلى عند ممارسة اللغة وإدراك جمالها، والقدرة على تكوين التعابير ومزجها، لغة تحلم بها في منامك، وتتلفظ بها بعفوية عند المحادثة الطويلة أو الغضب والغزل والفرح… وتتخيل جمال حروفها، وحروف علتها، وأدوات استفهامها، وحروف العطف، والاستثناء والرنة الموسيقية للتنوين والتأنيث.

إن اللغة كالجينات تنتقل وتتطور وتورث وتتغير وتكتسب شكلاً جديداً، وتتزاوج مع لغات أخرى، لكنها لا تختفي.

إنّ حضور اللغة العربيّة في الاجتماعات والمحافل والمناسبات العربيّة والإسلاميّة مع تعزيز العلاقة بين اللغة والآباء والأمهات لهو أكبر محفِّز للأبناء، وأكبر دافع لهم لإنشاء رباط حقيقي بينهم وبين اللغة العربية، وإنّ مما يهوّن آلام الغربة تمسّك الأجيال بهويّتهم التي تمثّل لغتُهم العربية عنوانَها الأبرز.

الأسئلة الشّائعة عن اللّغة العربيّة في المهجر وواجب تعلمها

هل تعلم اللّغة العربيّة واجب وفرض؟

ذهب الفقهاء إلى أن تعلّم اللغة العربية واجب شرعي على اختلاف بينهم في مقدار الواجب الذي يجب تعلّمه منها.

يقول ابن تيميّة بوجوب تعلم العربية فيقول في (اقتضاء الطريق المستقيم): “إن نفس اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

واختلفت آراء العلماء بين وجوب معرفة ما يكفي لأداء الفرائض العينية على الأقل، ووجوب معرفتها على الوجه الأكمل، وخاصة لطالب العلم في العلوم الشرعية.

ما الدّور الذي يلعبه الوالدان في تعليم اللّغة العربيّة للجيل الناشِئ في المَهجر؟

من خلال استحضارهم لقيمة اللغة العربية في أنفسهم، وفي أحاديثهم مع أبنائهم، واستحضار أقوال أئمة اللغة والشرع في مكانة العربيّة لتعزيز مكانتها في نفوس الأجيال، فخير معلّم هو المثال الحي والنموذج العمليّ والأسوة المثاليّة، والأبناء بطبيعة الحال مرايا آبائهم وأمهاتهم.

ما أهمية السنوات الخمس الأولى في عمر الطّفل بما يخص تعلّم اللّغة؟

تعدُّ السنوات الخمس الأولى من عمر أيّ طفل هي أهم المراحل العُمريّة التي يمرّ بها من أجل اكتسابه أي لغة وجعلها اللغة الأم لديه، فهي سنوات التأسيس اللّغوي، وهي المرحلة التي تكون أشبه بالطباعة الحيّة والمباشرة عند تعلّم أيّ لغة لتكون راسخة وبشكل سريع في ذهنه؛ وكأنما تُطبَع هذه اللغة على صفحة بيضاء لا تذهب مع الزمن.

الكاتب: أ. شرهان صالح

شارك المقال مع اصدقـائك: