fbpx

الهجرة النبوية الشريفة

في حادثة فريدة من نوعها غيرت مجرى التاريخ، وأحدثت فارقاً كبيراً، ونقلة نوعية في شبه الجزيرة العربية، وذلك عندما بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي ﷺ على الإسلام، والدفاع عنه، أثارت هذه البيعة ثائرة الغضب عند المشركين في مكة، فاشتد أذاهم للمسلمين، حتى أصبح لا يطاق، حينها أذن النبي ﷺ لأصحابه الكرام بالهجرة إلى المدينة التي فتحت أبوابها للمهاجرين؛ لتكون حاضنة المسلمين، ونواة الدولة الإسلامية، التي حكمت وسادت، وهزت أركان الشرك والطغيان في جزيرة العرب وغيرها.

الهجرة النبوية الشريفة

سجل معنا وابدأ تجربة تطبيق زلفى لتعلم القرآن واللغة العربية

تسجيل سريع في تطبيق زلفى

جدول المحتويات

لم تكن هذه الحادثة نزهة أو رحلة للتخفيف عن النفس، وإنما كانت هجرة تركوا فيها الأرض والأهل، فعز هذا الفراق على كثير من الصحابة الكرام، حتى إن النبي ﷺ قال عند خروجه من مكة: “والله إنكِ لأحب أرض الله إليّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت”.

نعم … هي الهجرة، دمعة فراق في سبيل العقيدة والتوحيد.

أولاً: تعريف الهجرة النبوية الشريفة

رحلةٌ قام بها خير البرية محمد بن عبد الله الرسول القرشي، وصاحبه أبو بكر الصديق بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة إلى الإسلام في مكة، وبعد تضييق شديد من مشركي مكة على الرسول وصحبه، ساموهم سوء العذاب والحصار حتى أذن رب العالمين لنبيه بها؛ قاصدين المدينة المنورة التي كانت تسمى (يثرب)، فلما أضاءت بالنور المحمدي أنار منها كل شيء -صلوات ربي عليه وسلامه- وسميت المدينة المنورة.

 وتعدّ الهجرة النبوية بدء التاريخ الهجري الذي يؤرخ به المسلمون لأحداث دولتهم منذ تأسيسها في المدينة المنورة سنة ستمئة واثنين وعشرين

ثانياً: أسباب الهجرة النبوية الشريفة

إن الهجرة النبوية كان قد أُنبِئها رسول الله من ورقة بن نوفل؛ إذ صحبته زوجته خديجة بنت خويلد إليه عقب نزول الوحي فقال له:” ياليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متعجباً: ” أومخرجيَّ هم؟”، قال: ” لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.”

ومن أسبابها:

شدة أذى مشركي قريش، وكثرة اعتداءاتهم على المسلمين

عملت قريش ما بوسعها لتحول دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، فاتبعت عدة أساليب؛ كالتفريق بين الرجل وزوجته وأولاده، بل اتبعت أيضاً أسلوب الاختطاف والتغييب والحبس، وقاموا بالحجر على أموال بعض الصحابة، لكن كل هذه الأساليب التي اتبعتها قريش باءت بالفشل أمام من ملك الإيمان قلبه، وعزم على الهجرة في سبيل الله فراراً بدينه الذي هو أغلى من الأهل والمال والوطن.

البحث عن بيئة آمنة لنشر الدعوة الإسلامية فيها

 بعد سنوات من الدعوة الإسلامية في مكة، عانى النبي ﷺ وأصحابه الكرام من أذى المشركين الوثنين الكثير، من الاضطهاد والتعذيب، بل وصل الأمر بهم أن قاطعوا النبي ﷺ ومن آمن معه، وكل بني هاشم، ومنعوهم من أدنى مقومات الحياة، واستمر بهم الحال هكذا إلى أن جاءهم الأمر بالهجرة إلى مكان آمن يعيشون فيه بسلام مطمئنين.

اقرأ أكثر: موضوع علوم القرآن وفائدة دراسته

رفض قريش وغالب المجتمع المكي الإصلاح الديني والمجتمعي الذي جاء به النبي ﷺ

أراد النبي ﷺ أن يؤسس بيئة صالحة من الناحية العقدية تقوم على أساس عقيدة التوحيد السليمة، بعيدةً عن عقيدة الأصنام الضالة، ومن الناحية الاجتماعية تقوم بتعزيز القيم الأخلاقية الفاضلة، لكن قريش لم تتقبل هذا الأمر، وحاربته بكل قوتها، وأخذتها العزة بالإثم على ترك دين الآباء والأجداد لأن بعض ما جاء به النبي ﷺ خالف هوى كثير من المشركين المتخلفين أخلاقياً وقيمياً.

وعد أهل المدينة -الأوس والخزرج- النبي ﷺ بنصرته وتصديق شريعته

بايع أهل يثرب (المدينة) النبي ﷺ على السمع والطاعة له ﷺ، وطلبوا منه أن ينتقل إليهم؛ لأن أهل المدينة كانوا يعيشون في بيئة متنوعة العقائد والأعراق، وعندهم اطلاع على العقيدة، ويعلمون بأمر نبي آخر الزمان؛ لأن اليهود كانوا يقولون لهم إنه سيُبعث نبي في آخر الزمان، وسيؤمنون به ويحاربونهم، لكن عندما خرج هذا الرسول الكريم لم يؤمنوا به؛ لأنهم يريدونه أن يكون منهم، فسارع أهل يثرب إلى التصديق بهذا الرسول الكريم ﷺ.

خطة قريش لاغتيال النبي ﷺ

بعد أن باءت قريش بالفشل، وتحطمت مكائدها الخبيثة على صخرة التوحيد في منع الصحابة من الهجرة، وعلى الرغم من الأساليب الشنيعة المتبعة في سبيل ذلك أدركت خطورة الموقف، فخافت على مصالحها وكيانها الاجتماعي بين العرب، لذلك اجتمعت في دار الندوة، مجمع الشر والمكر والخبث بقيادة إبليس، للتشاور في أمر عظيم، ولتدبير مكيدة كبرى، ألا وهي القضاء على قائد هذه الدعوة سيدنا محمد ﷺ، لكن الله تعالى كان فوق مكرهم، سرعان ما نزل الوحي من السماء على رسول الله ﷺ يخبره بما خططوا له،

فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ الأنفال:30، فأمر النبي ﷺ سيدنا علي -رضي الله عنه- أن ينام في فراشه، وخرج ﷺ من بين المشركين الذين باتوا عند بابه يريدون قتله، ووضع التراب على رؤوسهم.

الأمر من الله بالهجرة

كانت الهجرة بأمر من الله تعالى، بعد أن اكتملت مرحلة الدعوة السرية والجهرية في مكة بحمايةٍ وإشرافٍ منه جل في علاه، لأنه هو من تكفل برسوله ﷺ، وتكفل بحفظ هذا الدين ورعاية هذه الدعوة.

ثالثاً: التخطيط للهجرة النبوية

أخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر يعدان للهجرة، فـأبو بكر أخذ راحلتين وعلفهما من أجل الطريق الطويل؛ تقول عائشة -رضي الله تعالى عنها-: “فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الظهيرة، في وقت لم يكن يأتينا فيه، فقال لأبي بكر: “أخرج من عندك” فقال أبو بكر: “ليس إلا فلانة وفلانة”، وأمنه من أن يفشوا سره، قال: “أذن الله لي في الهجرة” قال: “الصحبة يا رسول الله! “، قال: “نعم”.

وعرض على رسول الله الراحلة والزاد، فأبى ﷺ أن يأخذها إلا بثمنها.

ثم رتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصدّيق الخطة، على أساس أن يخرج ﷺ وأبو بكر إلى الغار، ويأتي عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، وتأتي أخته أسماء (ذات النطاقين) بالطعام، ويأتي راعي أبي بكر (عامر بن فهيرة) بالغنم بعدهما ليعفي الأثر ويسقيهما اللبن، ويأتي دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير (عبد الله بن أريقط) ينتظر في يقظة إشارة من رسول الله ﷺ، ليأخذ الركب طريقه إلى الغار.

فهذا تدبير للأمور على نحو دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع كل شخص من الأشخاص مكانه في هذه الهجرة، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل جزء من أجزائها، والاقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة لأسلوب حكيم فريد تأخذ منه الدروس والحكم.

رابعاً: أهم الأحداث من مكة إلى المدينة

أحداث الغار

 لم يعلم أحد بخروج رسول الله ﷺ من مكة سوى علي بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وآل أبي بكر، حيث خرجا من خوخة (باب) لأبي بكر في ظهر بيته، حيث وقف رسول الله ﷺ، وَقَفَ عَلَى الْحَجُونِ فَقَالَ: “‌وَاللَّهِ ‌إِنَّكِ ‌لَخَيْرُ ‌أَرْضِ ‌اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي لَمْ أُخْرَجْ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”، ثم أكمل طريقه ويمم وجهه نحو الغار مع رفيق الدرب الصدّيق رضي الله عنه، فعلى الرغم من كل هذه الأسباب التي اتخذها رسول الله ﷺ لم يركن إليها مطلقاً، إنما كان كامل الثقة بالله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده؛ فعندما أحاط المشركون بالغار يقول سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي ﷺ: “لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا”، فقال ﷺ: “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما” ؟

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

سراقة بن مالك، يلاحق النبي ﷺ

في صحراء تمتدّ كالأبد، وتحت شمس تلفح الوجوه، كان ذلك اليوم، حين عمّ القلق أرجاء مكة، فقد أفلت النبي ﷺ من عيون قريش، وغادر مع صاحبه أبي بكر، في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو المدينة، أعلنت قريش عن جائزة عظيمة: “مئة ناقة لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً”، فتسابق الطامعون، ومن بينهم رجل فارس، ماهر له عين كالصقر، وركاب لا يُشقّ له غبار، وهو سُراقة بن مالك.

جاءه الخبر، أن راكبين قد مرا من هنا، وما إن سمع حتى امتطى جواده، وسار وحده والسيف في حزامه، والطمع ينهش فؤاده، كان يرى المجد قريباً، والغنيمة مؤكدة، لكن حين اقترب بدأت الرياح تتغير، رأى السراب حقيقة ورأى الحقيقة سراباً، فبينما يركض فرسه بخفة الريح غاصت قدما الفرس في الرمل فتعثر، ثم نهض، فغاص مرة أخرى، وهنا بدأ قلب سراقة يرتجف، لم يكن ذلك من قبيل المصادفة،

فالتفت إليه النبي ﷺ، وقال له كلمات هادئة، قوية كالرعد، لينة كالماء: “ارجع يا سراقة، ولن تمسك بسوء”، تردّد قلبه، تاهت عزيمته بين الطمع والخشية، طلب الأمان، فأمّنه الرسول ﷺ،  فانبسطت أساريره وقال برجاء: “اكتب لي كتاباً يكون أماناً”، فأمر النبي أن يُكتب له العهد، ثم نظر إليه النبي ﷺ، نظرة تجاوزت حدود الزمان، وقال قولته التي زلزلت قلب سراقة: “كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟”،

كسرى؟! ملك الفرس؟! من هذا الذي يعده بسواري أعظم ملوك الأرض وهو مطارد في الصحراء؟! عاد سراقة، وقلبه يطفو في يمّ من الذهول، وكتم الأمر، بل صار يصدّ الناس عن تتبع النبي ﷺ، حتى نجا الرسول ﷺ وبلغ المدينة.

مرت الأعوام، وسراقة يُسلم، ويقاتل تحت راية الحق حتى جاء يوم في خلافة عمر بن الخطاب، ودخلت كنوز كسرى على المدينة، فنادى عمر: “أين سراقة بن مالك؟”، تقدم سراقة، فناولوه سِواري كسرى، وتاجه، وحُليّه، فبكى سراقة وارتجفت الأرض تحت أقدامه؛ فقد صدق الوعد، وتحقق اليقين.

في خيمة أم معبد الخزاعية

في هذه الصحراء حيث تئنُّ القافلة تحت وهج الشمس، جلست أم مَعْبَد أمام خيمتها المتواضعة، تنظر إلى المدى بعينٍ خبِرة، تلتقط فيها أثر كل عابر، أقبل رجلان، كان أحدهما مهيب الطلعة، عليه سكينةٌ لا تشبه سكينة البشر، والنور يتهادى من وجهه كما يتهادى الفجر من بين أنامل الليل، وقف عند باب الخيمة، وسأل عن طعام أو لبن، فلم يكن في البيت شيء، فرمق النبي ﷺ شاةً في طرف الخيمة، فسأل عنها،

قالت أم معبد: “شاةٌ خلفها الجهد عن الغنم”، قال: “هل تأذنين لي أن أحلبها؟” قالت: “إن رأيت بها حلباً فاحلبها!” فمسح رسول الله ﷺ على ضرعها، ودعا الله، فإذا بها تنتفخ، وتَدرّ، حتى دعا بإناءٍ عظيم، فحلب فيه حتى امتلأ، وسقَى أم معبد ومن معها، وشرب هو وأصحابه، ثم حلب مرة أخرى، وتركه عندهم ومضى، وأم معبد تنظر، ودمعتها على طرف رمشها، لا تدري: أتبكي من الدهشة، أم من المهابة، أم من ذاك النور الذي ملأ المكان؟! عاد زوجها أبو معبد مساءً، فرأى اللبن، وتعجّب، وقال: “من أين هذا؟!” فأخبرته بالقصة، قال: “صِفيه لي!”  فقالت قولتها المشهورة التي حُفرت في كتب السيرة كدرّة أدبية فريدة:

“رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزرِ به صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صَهل، وفي عنقه سَطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلّم سماه وعلاه البهاء…”.

ثم مضت تصف هيئته ومهابته وصفاً يُدهش القلوب.

من خيمةٍ على هامش الصحراء، انطلقت شهادة صدق، صدحت بها أم معبد، لتظل كلماتها من أجمل ما وُصف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل كتب السيرة، كلمات امرأة لم تكن تعرف أنه رسول، لكنها رأت فيه شيئاً لا يُشبه أحدًا.

استقبال الأنصار للنبي ﷺ

حين بزغ نور الهجرة اشتاقت القلوب لرؤية الحبيب المصطفى ﷺ، كان الأنصار في المدينة ينتظرون رسول الله ﷺ على أحر من الجمر، يترقبون كل قادم من بعيد، يرفعون أعينهم نحو الأفق كل صباح، تخفق قلوبهم في صدورهم كلما لاحت سحابة غبار، أو اقتربت قافلة من بعيد.

كانوا يعلمون أن القادم ليس كأي قادم، وأن تلك الأقدام التي ستطأ تراب يثرب ستبدّلها، وتحيلها من دار حربٍ وفرقة إلى دار إيمانٍ ووحدة.

وما إن أطلّ النبي ﷺ بطلعته البهية حتى انفرجت الأرض فرحاً، وارتجّت المدينة تهليلاً وتكبيراً، وتسابق الرجال والصبيان والنساء إلى الطرقات، يلوّحون بأيديهم، وقلوبهم تخفق للقائه، لقد سبقت دموعهم كلماتهم، فأنشدوا يقولون:

 طَلَعَ البَدرُ عَلَينا ———- مِن ثَنياتِ الوَداع

وَجَبَ الشُكرُ عَلَينا ———- ما دَعا لِلّهِ داع

 أَيُّها المَبعوثُ فينا ———- جِئتَ بِالأَمرِ المُطاع

جِئتَ شَرَّفتَ المَدينَة ———- مَرحَباً يا خَيرَ داع

لم يكن استقباله ﷺ مجرد لقاء عابر، بل كان ولادة جديدة لمدينة ستُعرف بعدئذ بـاسم (المدينة المنورة)، منوّرة بقدوم من أُرسل رحمة للعالمين.

هكذا، دخل النبي ﷺ المدينة، لا كغريبٍ يجد له مأوى، بل كقائدٍ عظيم عاد إلى قومٍ ينتظرونه منذ الأزل، فارتوت الأرض من خُطاه، وأزهرت السماوات ببركته، وبدأ فصلٌ جديد من فصول النور.

خامساً: من دروس الهجرة

أهمية الأخذ بالأسباب

ما أعظم دروس الهجرة حين تُروى! وما أبلغ معانيها حين تُقرأ بعين القلب والبصيرة لا بعين الحكاية والرواية! فقد كانت رحلة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة فصلاً من فصول الإيمان، نُسج بخيوط الحكمة، وتوِّج بتاج التوكل، لكنه توكّل لا يعرف التواكل، لم يخرج ﷺ هائماً على وجهه، ولم ينتظر أن تُشق له السماء، بل خطّ طريق الهجرة كمن يرسم خارطة النور وسط الظلام، اتخذ الرفيق الصادق، واختار الدليل الحاذق، واختبأ في الغار، لا من ضعفٍ، بل من حكمةٍ تُدرّس، وتدبير يُعلّم أن سنن الله لا تُعطَّل حتى ولو كان الركب فيه نبيّ مرسَل.

هكذا تُصنع الحضارات، وهكذا تُبنى الأمم، بإيمانٍ يُلامس السماء، وعملٍ يُلامس الأرض، فالهجرة لم تكن فراراً، بل كانت انطلاقة، ولم تكن خِفية خوفاً، بل كانت حكمة واحترازاً، لتظل الأجيال تهمس في كل مشروع عظيم: خذ بالأسباب كما فعل حبيبك، ثم قل بثقة: “إن الله معنا”.

أهمية الوطن للرسالة المحمدية

إن مكة المكرمة أشرف بقاع الأرض لاصطفاء رب العالمين لها من بين أصقاع البلدان كافة لتكون أول بيت يبنى فيها لله عز وجل، البيت الذي بنته الملائكة وأعاد رفع قواعده إبراهيم -عليه السلام- وابنه إسماعيل عليه السلام ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ مُبَارَكࣰا وَهُدࣰى لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ آل عمران ٩٦

ونعلم قول النبي الأكرم لمكة المكرمة وهو يغادرها: “وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”.

والوطن الذي لا يأمن المؤمن على دينه ونفسه وماله وعرضه فيه -وإن ولد فيه وانتسب إليه- ليس بوطن، لذلك أذن الله -سبحانه وتعالى- بالهجرة، فالسلطان والقوة باتا ضروريين لنشر الدعوة، فباتت النفوس مهيأة للبذل في سبيل الله النفس والمال والولد، بعد أن كثر سواد المسلمين من بدء الدعوة في مكة، وضاقوا ذرعاً بتنكيل المشركين وظلمهم وصدهم عن دينهم، فكانت الهجرة النبوية ملاذاً ضرورياً لاستكمال تبليغ الدعوة.

الهجرة النبوية لم تكن هرباً بل كانت خطوة استراتيجية

كان من شجاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- أن بايع رجالاً من الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى والثانية، وابتعث معهم مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم يعلمان أهلها القرآن والإيمان، وصارت المدينة تستقبل سراََ المهاجرين من المؤمنين خلاصاً من تعذيب سادات قريش، وبقي هو وصاحبه أبو بكر الصديق حتى أذن الله سبحانه لهما بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الدعوة بتأسيس دولة إسلامية تكون قوة للمسلمين لنشر رسالة ربهم للعالمين بعد استضعاف دام ثلاث عشرة سنة، صقل القرآن نفوس الصحابة، وأسسوا إيمانهم بمركزيات ثابتة مصدرها الوحي بالقرآن والسنة

التآخي في الإسلام

كان من أول الدعائم التي اعتمدها رسول الله ﷺ في برنامجه الإصلاحي والتنظيمي للأمة والدولة والحكم هو ربط أواصر المحبة والمآخاة بين أصحابه الكرام، وهذا الموقف العظيم ليس مجرّد موقف تاريخي، بل لوحة من نور، رسمها الإيمان بيد النبي ﷺ الذي وحّد القلوب بعدما فرّقتها العصبيّات، وأذاب الفوارق حتى صارت الدماء والأنساب دون رابطة العقيدة والإيمان، تجمعهم قضية واحدة، وغاية سامية.

جاء المهاجرون من مكة بقلوب يملؤها الحنين، وظهور أرهقها السفر، وأرواح تشتعل شوقاً إلى الأمان بعد العذاب، تركوا المال والبيوت، بعضهم خرج لا يملك إلا ثوبه، وآخر باع كل ما يملك من أجل كلمة (لا إله إلا الله)، فكان الأنصار بانتظارهم، لا كمضيف يستقبل ضيفاً، بل كروح تلقى توأمها بعد طول فُرقة.

أمر النبي ﷺ بالمؤاخاة، فلم تكن كلمات تُلقى، بل عهداً يُبرم بين القلوب، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فعرض عليه نصف ماله، وبيته، بل كاد يطلّق له إحدى زوجتيه ليتزوّجها إن شاء! لكن عبد الرحمن أبى إلا أن يعمل بيده، ويأكل من كسبه، وقال قولته الخالدة: “دلّني على السوق”، نعم…إنها الأخوّة التي لم تبنَ على المصالح، آوى الأنصار المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم، على الرغم من قلّة ذات اليد، فأنزل الله فيهم قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} الحشر ٩

ما حدث في المدينة لم يكن تعاطفاً عابراً، بل ولادة أمة اختلطت فيها القلوب قبل الأجساد.

الخاتمة

نجحت خطة الهجرة النبوية نجاحاً باهراً يُعَدّ إعجازاً بمقاييس الزمن، وحققت أهدافاً جعلتها تستحق أن تكون بَدْءاً لتاريخٍ إسلامي خاص تتميز به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم.

  وهكذا تمضي الهجرة النبوية في ذاكرة الأمة كنبضٍ لا يخبو، ومشعل لا تنطفئ شعلته، تحمل بين طيّاتها أعظم دروس الفداء، والصبر، والتضحية، والتخطيط، والأخوّة الصادقة التي صهرتها نار الإيمان لا مطامع الدنيا.

لقد سطّر المهاجرون والأنصار معاً ملحمةً خالدة، لم تُبنَ بالحجارة، بل بالأرواح المؤمنة، والقلوب الموحّدة، والدموع التي سالت فرحاً بقدوم الحبيب ﷺ، واليد التي امتدت بالعطاء قبل أن تُسأل.

فمن هجرة النبي واحتضان المدينة، وُلدت أمة، وارتفعت راية، وتبدّل مسار التاريخ، ليبقى في كل زمان من يسير على الأثر، ويجدد المعنى، ويوقن أن النصر وعدٌ، لكن طريقه تعبٌ، وأن الإيمان إذا استقر في القلب وحفّته الأخوّة والصبر فذلك هو المجد، وتلك هي الرسالة.

الأسئلة الشائعة عن الهجرة النبوية الشريفة

لماذا هاجر النبي محمد من مكة إلى المدينة؟

بسبب ازدياد أذى المشركين الوثنيين في مكة، وللبحث عن بيئة آمنة لنشر الدعوة الإسلامية بكل حرية.

من رافق النبي في الهجرة؟

سيدنا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وأرضاه.

ماذا حدث في غار ثور؟

بات النبي ﷺ وأبو بكر الصديق فيه ثلاثة أيام، وحفظ الله تعالى نبيه ﷺ وصاحبه الصديق من أذى المشركين.

مَن سراقة بن مالك؟ وما دوره في الهجرة؟

كان يطارد النبي ﷺ طمعاً بمكافأة قريش، ثم عاد بعد أن غاص فرسه، وطلب الأمان من رسول الله ﷺ، ووعده بتاج كسرى.

كيف استقبل أهل المدينة النبي؟

استقبلوه بكل فرح وسرور، وفتحوا له بيوتهم وقلوبهم.

ما الدروس التي يمكن أن نتعلمها من الهجرة؟
  • الصبر على الأذى في سبيل نشر الدعوة.
  • الأخذ بالأسباب.
  • التضحية في سبيل الله.
  • أخوة الإسلام قائمة على المحبة والصدق.
كيف كانت معاملة الأنصار للمهاجرين؟

شاركوا المهاجرين أموالهم وبيوتهم، وآثروهم على أنفسهم.

كيف نفهم الوطن في ضوء الهجرة؟

الوطن هو ما يحفظ للمرء دينه ونفسه وعرضه وماله؛ فما توفر ذلك بمكان كان وطن المؤمن وإن لم يولد به.

ما أهمية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؟

إزالة الفوارق النفسية والطبقية بين أطياف المجتمع المختلفة على أساس التوحيد والدين الخالص لله، وبناء قوة متماسكة من هذه المكونات المختلفة التي ستواجه تحديات كثيرة.

ما الدروس المستفادة من الهجرة؟

أهمية التوكل على الله حق التوكل بالأخذ بالأسباب، واليقين بوعد الله، وحسن الظن به وصدق التوكل عليه والعمل لله الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة من إخلاص.

الكاتبان: أ. أحمد العباس وآ. رشا ميا

شارك المقال مع اصدقـائك:

zuolfa app

سجل معنا وابدأ تجربة تطبيق زلفى لتعلم القرآن واللغة العربية

إذا كنت ولي أمر ترغب في تعلم ولدك أو تعلمك بنفسك تلاوة القرآن الكريم أو اللغة العربية عن طريق تطبيق زلفى
شارك معنا اسمك ورقم هاتفك (وتساب) وترقب تواصلنا معك لنمنحك فرصة تجريب التطبيق

تسجيل سريع في تطبيق زلفى

zuolfa app

سجل معنا وابدأ تجربة تطبيق زلفى لتعلم القرآن واللغة العربية

إذا كنت ولي أمر ترغب في تعلم ولدك أو تعلمك بنفسك تلاوة القرآن الكريم أو اللغة العربية عن طريق تطبيق زلفى
شارك معنا اسمك ورقم هاتفك (وتساب) وترقب تواصلنا معك لنمنحك فرصة تجريب التطبيق

تسجيل سريع في تطبيق زلفى

نسعى نحو العلوم زلفى
تعلم – استمتع – نافس

لنبقى على تواصل
حمل تطبيق زلفى الآن

جميع الحقوق محفوظة © 2025 منصة زلفى

نسعى نحو العلوم زلفى
تعلم – استمتع – نافس

لنبقى على تواصل
حمل تطبيق زلفى الآن

جميع الحقوق محفوظة © 2025 منصة زلفى