fbpx

سوريا من الاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال

فتح العثمانيون بلدان المشرق العربي وأخضعوها بقوة السلاح، وكان ذلك ضمن القرون الثلاثة الأولى من الحكم العثماني، وحين أخذت الدولة العثمانية بالضعف منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر بدأت الثورات المحلية بالانتشار ضدها، بدءاً من صفوف الجيش، ثم بين الأمراء المحليين، حتى إذا ما استفحل الضعف العثماني وغدا انحطاطاً في القرن الثامن عشر اتسعت قاعدة التحديات ووصلت الثورات إلى المستويات الشعبية في المدن والأرياف، كذلك ظهرت الأسر المحلية الحاكمة إلى جانب ازدياد النفوذ البدوي في البادية وفي أطراف المدن، وازدادت الهُوّة اتساعاً بين العثمانيين والعرب في القرن التاسع عشر نتيجة لانتشار الفكرة القومية.

جدول المحتويات

الثورة العربية الكبرى

كانت بريطانيا تهدف لإنهاك الدولة العثمانية التي تشكل خطراً على وجودها في بلدان المشرق العربي وآسيا، وبعد اقتناعها بضرورة ذلك حاولت استغلال الحركات القومية لصالحها؛ فعملت على إلغاء فكرة الوحدة بين المسلمين، وتحقيق الاستقلال العربي عن الحكم العثماني، وإقامة دولة عربية موحدة، وقررت أن تنطلق في مشروعها من بلاد الحجاز بسبب موقعها الإستراتيجي وإمكانية فصل الحاميات العثمانية في الجنوب عن الشمال، ولكن كان عليها أن تختار بديلاً عن فخر الدين باشا (والي العثمانيين على المدينة المنورة)، شريطة أن يحظى هذا البديل على الإجماع من العرب

وعامة المسلمين حتى يتمكن من بَسْط سيطرته دون أن يواجه أدنى معارضة من أي أحد، فوقع اختيارها على الحسين بن علي المشهور بـ (شريف مكة) أو (الشريف حسين) لتنفيذ خطتها وقيادة الثورة على الأتراك، وكان اختيارها مناسباً جداً لِما كان يتمتع به الشريف حسين من أهمية دينية وسياسية في العالم الإسلامي بسبب شرَف نسبه الذي يعود لآل البيت النبوي، و بسبب منصبه كحامٍ للحرمين الشريفين.

سوريا من الاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال

أـ اندلاع الثورة عقب الاتفاقيات العربية البريطانية

لاقت دعوة بريطانيا للشريف حسين قبولاً عنده لأنه كان يسعى لإقامة دولة عربية، ووجد ضالته عند الإنكليز الذين أوهموه بتحقيق مطامحه في ذلك، ومن هنا جاءت المفاوضات المشهورة بين الشريف حسين ومكماهون (مندوب بريطانيا السامي) بين عامي ١٩١٥م ـ ١٩١٦م، هدفت من ناحية الحسين إلى تجاوز وضعه كأمير وشريف في الحجاز إلى ملك للعرب، وممثل لحركتهم القومية، ومن المحتمل خليفة لهم.

كانت المفاوضات بين الحسين والحكومة البريطانية تتضمن إغراءات عالية شديدة الوطء على نفس الحسين، بالإضافة إلى تحريضات تدفعه نحو التحرك السريع، فأوقدت في نفسه لهيب الحماس، فأعلن الثورة في حزيران ١٩١٦م، مستمداً دعمه من مال وسلاح وجيوش من الحكومة البريطانية متمثلة بـ(هنري مكماهون).

ب ـ نتائج الثورة على الصعيد العسكري

بعد هدنة مودرس (التي تضمنت إنهاء الأعمال القتالية بين الدولة العثمانية والحلفاء) أعلن المؤتمر الوطني السوري عام ١٩١٨م الأمير فيصل ملكاً على سوريا.

حكومة فيصل بدمشق والتحديات التي واجهت الحكم العربي

بعد دخول قوات فيصل إلى دمشق عام ١٩١٨م أنشأت قواعد دولة عربية مستقلة، وكان الأمير حريصاً على إظهار الصبغة العربية للدولة، فأنشأ المؤسسات، وكلف علي الرضا الركابي بتشكيل الحكومة، وعين اللواء شكري باشا الأيوبي حاكماً على بيروت، وحبيب باشا السعد حاكماً على متصرفية جبل لبنان.

استنكر الحلفاء إعلان الحكومة العربية، وهذا ما عبر عنه اللنبي (قائد الجيش البريطاني في فلسطين) بغضب عند زيارته فيصلاً في دمشق، فأمر بإنزال علم حكومة فيصل عن الدوائر الرسمية في بيروت، وقسم بلاد الشام إلى ثلاث مناطق عسكرية:

 ـ الأولى: سورية الداخلية وشرقي الأردن بإمرة فيصل.

ـ الثانية: تشمل الساحل السوري حتى صُور اللبنانية تحت الحكم الفرنسي.

ـ والثالثة: ضمت فلسطين تحت الحكم البريطاني.

ولتنفيذ قرار اللنبي طردت فرنسا ممثل حكومة فيصل من بيروت، وعندما استفسر فيصل من اللنبي عن الموقف صدر البيان الفرنسي البريطاني الذي أكد أن هدفهما من خوض الحرب في الشرق هو إخراج العثمانيين من المنطقة وإقامة حكومات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي لها اختياراً حراً، لكن ذلك كان يتنافى مع الواقع؛ إذ احتلت القوات الفرنسية الساحل السوري في عام ١٩١٨م، واحتلت بريطانيا دير الزور والجزيرة السورية في عام ۱۹۱۹م.

مؤتمر الصلح واللجنة الأمريكية

شارك الأمير فيصل في مؤتمر الصلح المنعقد في باريس عام ١٩١٩م بصفته ممثلاً للحجاز لا العرب بسبب معارضة فرنسا، وقدم مذكرة بيّن فيها: حق العرب في الاستقلال، والوحدة، وتقرير المصير، وندد باتفاقية (سايكس – بيكو)؛

تلك الاتفاقية التي عُقدت سراً خلال الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٦م بين فرنسا وإنجلترا (بريطانيا) وروسيا المعروفة بدول (الحلفاء) الاتفاقية التي تنص على تقسيم مناطق السيطرة العثمانية بين دول الاستعمار في الوقت الذي كان فيه الحسين بن علي والجمعيات السياسية يسعون إلى الحصول على اعتراف بحقهم في تأسيس دولة عربية بوقوفهم إلى جانب الحلفاء ضد الدولة العثمانية، ومن هنا يتبين أن الثورة العربية لم تكن إلا وسيلة لتحقيق أهداف دول الاحتلال، وخديعة للشريف حسين، بل للعرب كلهم حين استُخدموا كورقة رابحة لبريطانيا وحلفائها.

قرر مؤتمر الصلح فصل البلاد العربية في آسيا عن تركيا، وإرسال لجنة اقتصرت عضويتها على الأمريكيين (هنري كينغ وتشارلز كراين)، وسميت باسميهما لجنة (كينغ – كراين) بعد رفض كل من فرنسا وبريطانيا المشاركة في هذه اللجنة.

ترددت أخبار وصول لجنة (كينغ ـ كراين) إلى بلاد الشام، فاقترح حزب الاستقلال العربي عقد مؤتمر وطني عام ۱۹۱۹م لتقديم مطالب الشعب إلى اللجنة الأمريكية، وجاء في المقررات الصادرة عن المؤتمر: استقلال سوريا الطبيعية واستقلال العراق، ورفض اتفاقية (سايكس – بيكو)، ورفض الوصاية السياسية تحت مسمى الانتداب، وقبول سوريا معونة أمريكية أو بريطانية ورفضها المعونة الفرنسية، كما تقرر تنصيب فيصل ملِكاً دستورياً على سوريا.

وصلت اللجنة الأمريكية في أثناء انعقاد المؤتمر السوري العام، فتسلمت من رئيسه هاشم الأتاسي مذكرة تضمنت ميثاق الاستقلال، وأجرت استفتاء حول تقرير المصير، وأوصت بتكوين اتحاد من لبنان وسوريا وشرقي الأردن بملكية الأمير فيصل الدستورية، ورفض الانتداب، وقبول الوصاية الأمريكية على هذا الاتحاد ثم رفعت تقريرها إلى الرئيس الأمريكي (ولسون) الذي أرسل نسخاً منه إلى حكومات الحلفاء، ومع ذلك أهمل الحلفاء هذا التقرير، ولم يعملوا به.

الملك فيصل بين البريطانيين والفرنسيين

أ- اتفاق (جورج ـ كليمانصو)

عام ۱۹۱۹م قدم رئيس الوزراء البريطاني (لويد جورج) إلى رئيس الوزارة الفرنسية (كليمانصو) اقتراحاً بسحب القوات البريطانية من المنطقة الغربية لبلاد الشام لتحل محلها جيوش فرنسية، أما المناطق الداخلية فتبقى في أيدي قوات

فيصل مع بقاء بريطانيا في فلسطين، وتخلي فرنسا عن الموصل، فوافق كليمانصو على ألا يمس ذلك بنودَ صكّ الانتداب.

ب ـ اتفاق (فيصل ـ كليمانصو)

 رفض فيصل اتفاق(جورج كليمانصو) بعد شعوره بهواجس الغدر، وطلب من بريطانيا أن تلتزم بوعودها، فنصحه لويد جورج البريطاني بضرورة التفاهم مع فرنسا كأنه يلمح له ببدء تنفيذ سايكس بيكو، فاضُّطر على توقيع اتفاق (فيصل – كليمانصو) الذي يتضمن التزام فرنسا بتقديم معونة لسوريا وضمان استقلالها، مقابل التزام فيصل طلب الخبراء والمستشارين والعسكريين من فرنسا، وأن يكون لها الأولوية في المشروعات الاقتصادية، وحق تمثيل سوريا سياسياً في الخارج، بالإضافة إلى قبول سوريا فصل لبنان عنها، ووضع الأخيرة تحت الانتداب.

وقّع الأمير فيصل هذا الاتفاق مُجبراً؛ لأنه لا يملك حلاً آخر بعد تخلي بريطانيا عنه، وإصرار الفرنسيين على تحقيق أطماعهم في سوريا، لكنه اشترط قبول المؤتمر السوري لهذا المشروع.

ج- المؤتمر السوري ومؤتمر (سان ريمو) عام ۱۹۲۰م

عُقد المؤتمر السوري العام رفضاً لمشروع اتفاقية (فيصل – كليمانصو)، وقرر

١ً- استقلال سوريا بحدودها الطبيعية تحت حكم ملكي دستوري.

٢ً- مبايعة فيصل ملكاً عليها.

٣ً- منح لبنان الحكم الذاتي داخل إطار الوحدة السورية.

٤ً- استقلال العراق، مع إقامة اتحاد سياسي واقتصادي معه.

٥ً- ندد بالمؤامرات الاستعمارية والصهيونية.

قوبلت مقررات المؤتمر السوري العام المنعقد في آذار عام ۱۹۲۰م بحماسة من العرب، وبسخط شديد من الحلفاء، واشتد الخلاف بين الحكومة العربية وفرنسا حول تأسيس بنك سوريا ولبنان الفرنسي، وإصداره أوراقاً نقدية فرنسية، إذ رفضت الحكومة السورية التعامل بها، ورفضت السماح للجيوش الفرنسية بالمرور ضمن أراضي سوريا الداخلية نحو الشمال لمحاربة القوات التركية، لكن لرغبة الحلفاء في استمرار سيطرتهم على المنطقة عقدوا مؤتمر (سان ريمو) عام ۱۹۲۰م لتطبيق الانتداب على بلاد الشام والعراق، فسارع فيصل بعد المؤتمر إلى اتخاذ بعض الإجراءات، فحل وزارة علي رضا الركابي، وكلّف هاشم الأتاسي بتشكيل وزارة وطنية، بدأت بعقد قرض وطني لجمع الأموال اللازمة لتجهيز الجيش، ووسعت قانون التجنيد.

الاحتلال الفرنسي لسوريا ونضال الشعب السوري

أ- أطماع فرنسا في سوريا (بلاد الشام)

أصبحت فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر منافساً خطيراً لبريطانيا في السعي إلى السيطرة الإستراتيجية على البحر المتوسط، لذلك توجهت بأنظارها نحو ساحل بلاد الشام الذي كان يطلق عليه (الساحل السوري) لتدعيم إمبراطوريتها في الشمال الإفريقي، والحصول على مركز مميز في شرق البحر المتوسط، فأقدمت عام ١٩١٨م على احتلاله، لكنّ وجودها فيه جُوبهَ بمقاومة مدعومة من حكومة فيصل في دمشق، ومحاطاً بالنفوذ البريطاني المسيطر على مصر وفلسطين والعراق، لذلك أصرت على وضع سوريا تحت الانتداب الفرنسي في مؤتمر سان ريمو عام ١٩٢٠م، وبدأت تتخذ خطوات فعلية لفرض انتدابها على سوريا.

ب- إنذار غورو وزحف الجيش الفرنسي إلى دمشق في ١٤ تموز عام ١٩٢٠م

بدأت فرنسا بعد مؤتمر (سان ريمو) توجه اهتمامها نحو سوريا، فعَقدت هدنة مع الحكومة التركية التي كانت تتصارع معها؛ لتستعد للهجوم على سوريا من الشمال، ووافق المجلس النيابي الفرنسي على إرسال حملة عسكرية إلى بلاد المشرق لدعم قوات الجنرال غورو (المندوب السامي للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا) الذي وجه إنذاراً إلى الملك فيصل يطلب فيه:

١ً- اعتراف سورية بالانتداب الفرنسي من دون قيد أو شرط.

٢ً- حل الجيش السوري، وإلغاء التجنيد الإجباري.

٣ً- ملاحقة الثوار، وفرض العملة الورقية التي تصدرها فرنسا.

٤ً-  منح فرنسا حرية التصرف بسكة حديد (رياق – حلب).

حدد غورو أربعة أيام لوصول رد حكومة فيصل على الإنذار، فوافقت حكومة فيصل على قبوله، متذرِّعة بظروف البلاد الصعبة وضعف الإمكانات الدفاعية، ونصيحة بريطانيا الغادِرة بعدم المجابهة، فبدأت الحكومة بتسريح الجيش الوطني، وألغت التجنيد الإجباري، وأجلت اجتماعات المؤتمر السوري مدة شهرين مخالِفة قراراتِه، لكنّ (غورو) تذرع بتأخر وصول جواب الحكومة الخطي (نصف ساعة) عن صدور الأوامر للجيش الفرنسي بالزحف إلى دمشق.

ج- واقعة ميسلون بقيادة يوسف العظمة (المواجهة الأولى في نضال الشعب السوري)

ثار الشعب عندما علم بتقدم الجيش الفرنسي إلى دمشق، وأذاع الملك فيصل بياناً يدعو فيه إلى صد الغزاة بعد أن فشل في إقناع غورو بتوقف جيشه، وسارع يوسف العظمة وزير الحربية إلى تجهيز القوات، وتوقفت عمليات تسريح الجيش، وتوافد المتطوعون للدفاع عن سوريا واستقلالها وساعتها دقت طبول الحرب.

تمركز الجيش الفرنسي في ميسلون على مقربة من دمشق لتوافر المياه فيها، وارتباطها بالسكك الحديدية، وبطرق صالحة لمرور العجلات، واستطاع يوسف العظمة الثبات مع من رافقه من الجيش والمتطوعين مدة ثماني ساعات تقريباً، في معركة مشرِّفة انتهت باستشهاده مع عدد كبير من رفاقه، تمكنت بعدها القوات الفرنسية من دخول دمشق وإحكام السيطرة عليها ثم توجه غورو إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي، وخاطبه قائلاً: “…ها قد عدنا يا صلاح الدين…” كأنه يرد على مقولة الأخير إبان الحروب الصليبية: “إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه”.

ثم أصدر غورو أمراً بمغادرة فيصل سوريا؛ بذريعة تشجعيه الثوار، فالتجأ إلى البريطانيين في فلسطين ليكون تحت حمايتهم.

د- فرنسا تفرض سياستها الاستعمارية على سوريا

بعد احتلال القوات الفرنسية دمشقَ قضى غورو على سيادة الدولة ومظاهر الحكم الوطني بحل الجيش السوري، وإلغاء وزارتي الخارجية والحربية، وسارع إلى إقامة لجنة انتدابية في دمشق تقوم بالإشراف على أعمال الحكومة، وأصدر قراراً ألغى بموجبه معظم القوانين والأنظمة التي وقعت في عهد حكومة فيصل، وأبقى الحكم اسمياً بيد حكومة علاء الدين الدروبي.

تجزئة الاحتلال الفرنسي للدولة السورية

حكمت القوات الفرنسية سوريا بمبدأ (فرق تَسُد) لإضعاف الاتجاهات الاتحاديّة والوطنية، وتمزيق وحدة الشعب السوري، والسيطرة على البلاد وإضعاف الثورات، وتعزيز النزعات الطائفية، وكان هذا التقسيم على مرحلتين:

– المرحلة الأولى: بين عامي (۱۹۲۰-۱۹۲۲م). أنشأت سلطات الانتداب الوحدات السياسية الآتية:

١ً- دولة لبنان الكبير.

 ٢ً- حكومة حلب.

٣ً- حكومة دمشق.

٤ً- حكومة جبال اللاذقية.

٥ً- حكومة جبل العرب.

– المرحلة الثانية: ما بين عامي (۱۹۲۲-۱۹۲۵م) شكل خلالها الاتحاد السوري، ويضم:

١ً- حكومة حلب

٢ً- حكومة دمشق

٣ً- حكومة اللاذقية

وأبقت فرنسا على: (دولة لبنان الكبير، ودولة جبل العرب).

فرنسا تضعف الاقتصاد السوري

عملت فرنسا على ربط النقد السوري بالفرنك الفرنسي الذي كان يعاني من أزمات كبيرة، وأضعفت الصناعة السورية لتسويق البضائع الأوروبية لا سيما الفرنسية فانتشرت البطالة.

لم تقتصر سياسة فرنسا على تجزئة سوريا وإلغاء الحكم الوطني وإضعاف الاقتصاد فحسب؛ بل وصل بها الأمر إلى دوائر التعليم، فحاربت اللغة العربية، وحاولت تشويه التاريخ الإسلامي.

الثورات السورية ضد الاحتلال الفرنسي

اندلعت الثورات ضد فرنسا في كل أنحاء سوريا منذ نزول القوات الفرنسية على أرضها، واتسمت عمليات الثوار بطابع حرب الكمائن، مستفيدين من طبيعة المناطق الجبلية والغابات والبادية، فهُم أهل الأرض، و”أهل مكة أدرى بشعابها”، ومن أهم تلك الثورات:

أ- ثورة الساحل السوري (۱۹۱۹-۱۹۲۱م)

قامت ثورة الساحل بقيادة الشيخ (عمر البيطار) بين عامي (۱۹۱۹-۱۹۲۱م)، وقد كبدت الفرنسيين خسائر فادحة، وحققت انتصارات كبيرة، حيث تمكن الثوار من إلحاق الهزيمة بالقوات الفرنسية وإيقاف تقدمها، وقد تعاون الشيخ عمر البيطار مع الزعيم إبراهيم هنانو، واتصلا بحكومة دمشق لتلقي الدعم، وظهر صالح العلي في منطقة الشيخ بدر.

ب- ثورة ابراهيم هنانو في الشمال (۱۹۱۹-۱۹۲۱م)

ترافقت ثورة الساحل مع ثورة جبل الزاوية التي قادها إبراهيم هنانو بين عامي (۱۹۲۱-۱۹۱۹م)، حيث حصل تعاون بين القائدين لتنسيق عمل المقاومة ضد المحتل، والاتصال مع الحكومة العربية في دمشق، وقد استطاع إبراهيم هنانو إلحاق الهزيمة بالفرنسيين في معارك عدة، وتمكن من تحرير إدلب وحارم وجسر الشغور، فدفع فرنسا على تعزيز قواتها إلى أن تمكنت من حصار هنانو رأس الثائرين وقائدهم، فاضطر إلى التراجع إلى حمص، ثم غادر إلى عمان فالقدس، فألقت بريطانيا القبض عليه وسلمته إلى فرنسا (قسيمتها في الشرق الأوسط)، ثم أطلقت سراحه بعد ذلك لتهدئة الأوضاع وضبط صوت الشعب.

ج- ثورة حوران وجنوبي لبنان وانتفاضات متعددة

اشتعلت الثورة في حوران عام ۱۹۲۰م وتركزت في(خربة غزالة)، فقد ثار الأهالي نتيجة قدوم رئيس حكومة دمشق علاء الدين الدروبي، والوزير عبد الرحمن اليوسف لإقناعهم بقبول الانتداب الفرنسي، وقد جابهتها القوات الفرنسية بقسوة ووحشية حتى تمكنت من إخمادها، ثم قاد أحمد مريود ثورة العرقوب في جنوبي لبنان، وقامت ثورة الحولة في شمالي فلسطين بقيادة محمود الفاعور، وتصدى الثوار بكمين لموكب غورو في أثناء زيارته القنيطرة السورية حيث قُتل مرافقه، أما في تل كلخ فقد كانت الثورة بقيادة آل الدندشي، أما انتفاضة دمشق فكانت عام ۱۹۲۲م بسبب زيارة كراين إليها، فحدثت اضطرابات تندد بالاحتلال الفرنسي وتطالب بالحرية والاستقلال.

د- الثورة السورية الكبرى (١٩٢٥-١٩٢٧م)

سياسة فرنسا الاستعمارية تمهد للثورة السورية الكبرى

استمرت فرنسا في سياستها الاستعمارية في سوريا، فعملت على إفساد المجتمع ونشر الرشوة في الجهاز الإداري، وقسمت سوريا إلى دويلات لتسهيل السيطرة عليها، فزادت من إشعال الثورات، حتى كانت الثورة السورية الكبرى.

سلطان باشا الأطرش يقود الثورة السورية الكبرى

فصلت فرنسا جبل العرب عن الوطن الأم سورية، وعينت الضابط (كاربييه) حاكماً عاماً عليه، فاتجه زعماء الجبل إلى المفوض السامي(ساراي) للاعتراض على ذلك، إلا أنه رفض الاستجابة لوفد الزعماء، وأساء معاملتهم أيما إساءة، فكان ذلك كالشرارة التي أججت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وكانت المعركة الأولى في منطقة (الكَفر)، التي استمرت أربعين دقيقة تقريباً، كانت أسرع هزيمة منيت بها فرنسا، إذ أسقط الثوار خلالها طائرة فرنسية، فلجأت القوات الفرنسية المهزومة إلى قلعة السويداء وتحصنت بها، ثم أرسلت فرنسا قوات جديدة لفك الحصار عن القلعة، قاومها الثوار في معركة (المزرعة)، وتكررت هزيمة الفرنسيين الذين أرسلوا حملة مجهزة بالطائرات تمكنت من فك الحصار عن القلعة بعد خوض معركة (المسيفرة).

الثورة السورية الكبرى تشمل سوريا كلها

عهد السلطان باشا الأطرش إلى رمضان شلاش بقيادة الثورة في المنطقة الشرقية، وعمل على تحرير تدمر وطرد الفرنسيين منها، واشتعلت الثورة في دمشق وغوطتها من أجل تخفيف الضغط عن الجبل، بعد أن شددت فرنسا قبضتها عليه، فكانت معركتا (الزور الأولى والثانية)، حيث برز مناضلون أمثال حسن الخراط ومحمد الأشمر، وما لبثت الثورة أن شملت معظم أنحاء سوريا وامتدت إلى لبنان، وحققت انتصارات كبيرة،

فهاجم الثوار في دمشقَ قصرَ العظم مقر المندوب السامي (ساراي) الذي هرب إلى بيروت، وأمر بقصف دمشق وقد أثار ذلك سخطاً عالمياً، وانهالت بَرقيّات الاحتجاج على فظائع فرنسا إلى عصبة الأمم، ووجه الزعيم سعد زغلول نداء يستنكر الأعمال الإجرامية الفرنسية، وأرسل برقية تأييد لعبد الرحمن الشهبندر (مؤسس حزب الشعب السوري)، فعمدت فرنسا إلى تغيير المفوض السامي وعينت (دوجو فنيل) الذي ألّف حكومة جديدة أدخل فيها بعض الوطنيين إلا أنه استقال بعد أن مُني بالفشل.

فرنسا تشدد قبضتها لإنهاء الثورة

قامت فرنسا بتشديد ضربتها للثوار وبإرسال قوات إضافية احتلت السويداء، في وقت بدأت فيه موارد الثورة تنضُب خاصة بعد المصاعب والحصار الاقتصادي، فاضطر بعض قادة الثورة في دمشق إلى المغادرة إلى الأردن أمثال سعيد العاص، في حين استُشهد بعضهم الآخر أمثال عز الدين الجزائري، فتمكنت فرنسا من إخمادها، لكن بعد أن اضطرت إلى إعلانها قبول المفاوضات مع الزعماء الوطنيين، وبتوقف الثورة بدأ الكفاح السياسي؛ أي إن النضال العسكري المتزايد أجبر الفرنسيين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات السياسية كأنها تعترف بمبدأ: “إرادة الشعب لا تُقهر”.

نتائج الثورات في سوريا

سعى الاحتلال الفرنسي في سوريا إلى ضرب الوحدة الوطنية التي زادتها الثورات تلاحماً وانسجاماً وتماسكاً، فازداد الوعي الوطني وكبدت الثورات السورية الفرنسيين خسائر فادحة في الأرواح (أكثر من ١٥ ألف قتيل مقابل استشهاد عشرة آلاف من المجاهدين السوريين)، وقد أثارت هذه الثورات الرأي العام العالمي وخاصة داخل فرنسا، فأجبرها على تعيين مندوبين مدنيين بدلاً من العسكريين، والتفاوض مع الزعماء الوطنيين على أسس عدة منها:

١- إجراء انتخابات لتشكيل جمعية تأسيسية تضع دستوراً للبلاد.

٢- إلغاء الأحكام العرفية.

٣- إصدار عفو عن المبعدين.

الاستقلال السوري وجلاء الاحتلال الفرنسي

أ- الجمعية التأسيسية وأول رئيس للجمهورية

توقفت الثورة السورية الكبرى عام ١٩٢٧م بعد إعلان فرنسا موافقتها على إجراء انتخابات لتشكيل جمعية تأسيسية فاز فيها الوطنيون، فبدأ النضال السياسي الدستوري في سوريا، وقد وضعت الجمعية دستوراً للبلاد عام ١٩٢٨م تألف من(١١٥) مادة، تؤكد على أنّ:

١ً- سوريا وحدة طبيعية لا تتجزأ.

٢ً-  نظام سوريا جمهوري برلماني.

٣ً- الوزارة مسؤولة أمام البرلمان.

لكنّ المفوض السامي (بونسو) لم يقبل به إلا عندما أضاف إليه المادة (١١٦) التي تنص على (وقف العمل بكل مادة تمس صلاحيات الدولة المنتدِبة)، وقد قوبل ذلك بالرفض، وعمّت الاضطرابات في البلاد، واشتدت بعد حصول العراق على استقلاله نتيجة توقيعه معاهدة عام ١٩٣٠م مع بريطانيا، فاضطرت فرنسا إلى الموافقة على إجراء انتخابات لمجلس نيابي جديد وانتُخِب محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية عام ١٩٣٢م.

ب- الإضراب الستيني يجبر فرنسا على قبول عقدِ معاهدة عام ١٩٣٦م

تابعت الحكومة الجديدة نضالها للحصول على الاستقلال التام، فتقدم (الكونت دومارتيل) المفوض السامي الفرنسي عام ١٩٣٤م بمشروع معاهدة لا يتناسب مع المطالب الوطنية، ولا ينظم العلاقة مع فرنسا، فلم يقبل به المجلس النيابي، فعطل (دومارتيل) أعمال المجلس، لكن الشعب السوري برهن على وحدته وتفانيه من أجل الحرية والاستقلال بإعلانه الإضراب العام عام ١٩٣٦م، الذي انطلق من حلب، وعرف باسم (الإضراب الستيني) لأنه استمر ستين يوماً، فتعطلت خلاله مرافق البلاد وجمدت حركتها، وشُلّت الحركة الاقتصادية، فدفع فرنسا مجبرة إلى عرض استعدادها لإطلاق سراح المعتقلين، وإصدار عفو مقابل إنهاء الإضراب الستيني، والتفاوض مع الوطنيين لعقد معاهدة على أساس الاعتراف باستقلال سوريا ووحدتها، وبذلك توقف الإضراب.

توجه الوفد برئاسة هاشم الأتاسي إلى باريس عاصمة فرنسا لإبرام معاهدة عام ١٩٣٦م تضمنت:

١ً- اعتراف فرنسا باستقلال سوريا استقلالاً تاماً.

٢ً- تتحمل الحكومة السورية مسؤولية حفظ النظام.

٣ً- التشاور بين البلدين في الشؤون الخارجية.

٤ً- تمنح سوريا لفرنسا تسهيلات في الطرق والمواصلات خلال  المعاهدة.

٥ً- مدة المعاهدة خمس وعشرون سنةً، مع مدة انتقالية مدتها ثلاث سنوات.

ثم أضيف إلى معاهدة عام ١٩٣٦م ملحق عسكري تضمن:

تعهد سوريا بتقديم قاعدتين جويتين:

المزة في دمشق، والنيرب في حلب،

 ومنطقتين لبقاء القوات الفرنسية:

 في اللاذقية وجبل العرب لمدة خمس سنوات، وأُلحق بها كتاب آخر تضمَّنَ ضم حكومتي اللاذقية وجبل العرب إلى سوريا.

ج- فرنسا تتراجع عن التصديق على معاهدة عام ١٩٣٦م

كانت المعاهدة أول اعتراف رسمي فرنسي باستقلال سوريا، فجرت انتخابات أصبح فيها هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، وتابعت الوزارة الجديدة برئاسة جميل مردم بك مفاوضاتها لتسلم صلاحياتها من فرنسا التي رفض مجلسها النيابي التصديق على المعاهدة، ووضعت عقبات كثيرة أمام الوزارة الوطنية السورية، كإثارة النعرات الانفصالية، ورفض الموظفين الفرنسيين تسليم الصلاحيات للسوريين.

د- الضغط الشعبي يجبر فرنسا على إنهاء الانتداب

على لسان (كاترو) المندوب الفرنسي الجديد أذاعت حكومة فرنسا بياناً في أثناء الحرب العالمية الثانية تدعو فيه السوريين واللبنانيين للوقوف إلى جانبها في الحرب ضد ألمانيا وحكومة (فيشي)، وتعهدت لسوريا ولبنان بالاستقلال في حال هزيمة حكومة فيشي وانتصارها،  وبعد انتهاء الحرب حاولت فرنسا  كعادتها المماطلة بوعودها، إلا أنها أمام الضغط الشعبي المتزايد أعلنت إنهاء الانتداب واستقلال سوريا، وأصبح الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية، وبعد وفاته عام ١٩٤٢م أجريت انتخابات وطنية انتُخب فيها شكري القوتلي رئيساً للجمهورية، وتشكلت حكومة برئاسة سعد الله الجابري، طالبت فرنسا بتسليم الجيش والجلاء عن أراضيها.

هـ- جلاء فرنسا يوم وطني ومحور قصائد الشعراء

 جلت فرنسا عن سوريا، وخرج آخر جندي فرنسي في ١٧ نيسان من عام ١٩٤٦م، واتُّخذ هذا اليوم في سوريا يوماً وطنياً صار يسمى (عيد الجلاء) يحتفل به السوريون ويتغنى به الشعراء في قصائدهم، كبدوي الجبل، وبدر الدين الحامد، وعمر أبي ريشة، وشفيق جبري وغيرهم.

خاتمة

 جرّت الثورة العربية الكبرى ويلاتِ استبداد المحتل المستعمر الذي دفعت الشعوب ثمنه دماء وأرواحاً، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الاتحاد مع العدو ضد الصديق لا يجني إلا الخسارة والخذلان والغدر، وأن العدو لا يحقق حلماً لعدوه ولا يبني له مجداً؛ ومن خلال ما سبق يعلمنا التاريخ أن الحرية لا تنال إلا بالقوة عبر الكفاح.

الأسئلة الشائعة عن سوريا من الاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال

متى احتلت فرنسا سوريا، ومتى استقلت؟

– احتلتها عام ١٩٢٠م، واستقلت عام ١٩٤٦م.

من كان رئيس سوريا أيام الاحتلال الفرنسي؟

– أُبقي الحكم اسمياً بيد حكومة عبد الرحمن الدروبي.

كيف نالت سوريا استقلالها من فرنسا؟

– من خلال الكفاح المستمر والانتفاضات والثورات والإضرابات في كافة أنحاء البلاد، بالإضافة إلى الضغط الشعبي المتزايد.

كم عاماً استمر الاحتلال الفرنسي لسوريا؟

– ٢٦ عاماً

من كان أول رئيس لسوريا عام ١٩٣٢م، وأول حامل لِلَقب رئيس الجمهورية؟

– محمد علي العابد

متى انتهى الاحتلال الفرنسي لسوريا؟

– ١٧ نيسان عام ١٩٤٦م، وهو يوم الاستقلال السوري ويوم الجلاء.

من حرر سوريا من الفرنسيين؟

– المقاومة الشعبية وقادة الثورات.

ما المعاهدة التي تضمنت فرض الانتداب الفرنسي على سوريا؟

– معاهدة سان ريمو ١٩٢٠م.

ما أول معركة بين السوريين والاحتلال الفرنسي، ومن قادها؟

– معركة ميسلون بقيادة يوسف العظمة.

ما اسم الثورة التي أجبرت فرنسا على الرحيل، ومتى كانت؟

– الثورة السورية الكبرى ١٩٢٥م.

من قائد الثورة العربية الكبرى؟

– حسين بن علي المشهور بـ(شريف مكة) أو(الشريف حسين).

ما سبب اختفاء الشريف حسين عن الأنظار بعد تسلم ابنه حكومة دمشق؟

– تخلت بريطانيا عنه، وبدأت تدعم آل سعود، فتوجه لدعم ابنه ضدهم في أرض الحجاز، ثم نَفَت بريطانيا الشريف حسين إلى قبرص، ثم نُقل إلى عمان ومات فيها.

من أبرز قادة الثورة السورية؟

 – إبراهيم هنانو، ويوسف العظمة، والشيخ صالح العلي، وحسن الخراط، وسلطان باشا الأطرش.

من كان أول رئيس لسوريا بعد الاستقلال؟

– شكري القوتلي.

ما المقصود بمصطلح (الحلفاء)؟

– التحالف الدولي الثلاثي المكون من بريطانيا وفرنسا وروسيا.

من حكم سوريا لولايتين، وتقلّد فيها عدة مناصب، ويلقب (أبو الجمهورية)؟

– هاشم الأتاسي.

ما اسم أول جنرال فرنسي زحف بجيشه إلى دمشق واحتلها؟

– الجنرال غورو.

مَن قاد ثورة الساحل السوري ضد الاحتلال الفرنسي؟

– الشيخ عمر البيطار.

ما مضمون معاهدة ١٩٣٦م بين فرنسا سوريا؟

١- اعتراف فرنسا باستقلال سوريا استقلالاً تاماً.

٢ً- تتحمل الحكومة السورية مسؤولية حفظ النظام.

٣ً- التشاور بين البلدين في الشؤون الخارجية.

٤ً- تمنح سوريا لفرنسا تسهيلات في الطرق والمواصلات خلال المعاهدة.

٥ً- مدة المعاهدة خمس وعشرون سنةً، مع مدة انتقالية مدتها ثلاث سنوات.

من أبرز شعراء الجلاء؟

– بدوي الجبل، وبدر الدين الحامد، وعمر أبو ريشة، وشفيق جبري وغيرهم.

الكاتب: أ. بشار حمو

شارك المقال مع اصدقـائك: