fbpx

طلب العلم - فضله وأثره و10 فوائد لطلب العلم

يُعدّ طلب العلم مؤشراً أساسياً لتقدم ورقي أي مجتمع، وفوائده المباشرة وغير المباشرة على صعيد الفرد والعائلة والمجتمع والأمة لا ينكرها أحد.
وقد أولت الشريعة الإسلامية طلب العلم أهمية بالغة، وجاءت نصوص الوحي من قرآن وسنة داعية لهذا الأمر ومرغبة فيه،
وكان حال المسلمين – لا سيما المتقدمين – منهم خير دليل على اهتمام المسلمين بطلب العلم، وخصوصاً الشرعي منه.

سنتعرف في هذا المقال على ماهية طلب العلم، وفضله، وآثاره على الأصعدة كافة، وعلى العلاقة بين العلم الشرعي وبقية العلوم.

جدول المحتويات

ما طلب العلم؟

العلم هو ضد الجهل، والسعي لرفع الجهل، والاستزادة من المعرفة هو طلب العلم.
وكل إنسان يولد جاهلاً، ثم يبدأ باكتساب المهارات والعلوم من بيئته ومحيطه مستخدماً ما حباه الله إياه من وسائل تمكنه من ذلك.
قال تعالى:﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ (النحل : 78)

والعلوم الشرعية والكونية والاجتماعية كثيرة متعددة، ولا يمكن لإنسان – إلّا الأنبياء – أن يحيط بكل جوانب صنف واحد من العلوم، فضلاً عن أن يحيط بكل العلوم.
وكلما تقدمت الحضارات زادت العلوم معها تقدماً وتخصصت أكثر في جزئيات كل علم، فصارت حاجة طلاب العلم ملحة للتخصص في علم واحد يبرعون فيه ويعلمون أغلب تفاصيله، وإلا فإن العمر – ولو امتد طويلاً – فلن يمكن الإنسان من بلوغ الغاية في كل علم.

طلب العلم فضله وأثره و10 فوائد لطلب العلم

فضل طلب العلم

طلب العلم له فضل عظيم ومكانة رفيعة في الشريعة الإسلامية، ويكفيه شرفاً أن ربط الله تعالى العلم بخشيته سبحانه، فجعل من يخشاه حق الخشية هم العلماء، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ (فاطر : 28) وللعلم فضل عظيم لأنَّ …
  1. فيه إرضاء لله عز وجل وتحقيق لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وحث عليه.
  2. فيه رفعاً للجهل الذي يوقع صاحبه في كثير من المشاكل والصعوبات. ﴿وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ …﴾ (النساء : 83)
  3. العلمَ يرفع قدر صاحبه في الدنيا وفي الآخرة إذا كان خالصاً لله تعالى. ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ﴾ (المجادلة : 11)
  4. فيه وقاية للفرد والعائلة والمجتمع من الدعوات المنحرفة والعلوم الزائفة والأقوال الفارغة. قال الشافعي : لولا المحابر ، لخطبت الزنادقة على المنابر .
  5. فيه صدقة جارية للعبد تبقى بعد موته. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

20 وجهاً لفضل العلم على المال

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

  1. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إن العلم ميراثُ الأنبياء، والمال ميراثُ الملوك والأغنياء.
  2. إن العلم يحرسُ صاحبه، وصاحب المال يحرسُ ماله.
  3. المال تُذهِبُه النفقات، والعلمُ يزكو على النفقة.
  4. صاحب المال إذا مات فارقه ماله، والعلمُ يدخلُ معه قبره.
  5. العلم يحكم على المال، والمال لا يحكم على العلم.
  6. المال يحصل للمؤمن والكافر والبرِّ والفاجر، والعلمُ النافع لا يحصل إلا للمؤمن.
  7. العالِمَ يحتاجُ إليه الملوكُ فمن دونهم، وصاحب المالُ إنما يحتاج إليه أهلُ العُدم والفاقة.
  8. النفسَ تشرفُ وتزكو بجمع العلم وتحصيله، وذلك من كمالها، والمالُ لا يزكيها ولا يكملها ولا يزيدها صفة كمال، بل النفس تنقصُ وتشحُّ وتبخلُ بجمعه والحرص عليه، فحرصها على العلم عين كمالها، وحرصها على المال عين نقصها.
  9. المال يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء، والعلمُ يدعوها إلى التواضع والقيام بالعبودية فالمالُ يدعوها إلى صفات الملوك، والعلمُ يدعوها إلى صفات العبيد.
  10. ما أطاع الله أحد قط إلا بالعلم، وعامة من يعصيه إنما يعصيه بالمال.
  11. أن العلم حاجب موصل لها إلى سعادتها التي خُلقت لها والمال حجاب عنها وبينها.
  12. المال يستعبدُ مُحِبَّه وصاحبه فيجعلُه عبداً له، والعلم يستعبده لربه وخالقه.
  13. قيمة الغني مالُه، وقيمة العالم علُمه، فهذا متقوم بماله، فإذا عُدِمَ عُدمت قيمتُه فبقي بلا قيمة، والعالمُ لا تزولُ قيمته بل هي في تضاعفٍ وزيادة دائمة.
  14. العالم يدعو الناس إلى الله بعلمه وحاله، وجامعُ المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وماله.
  15. الغنى بالمال هو عين فقر النفس، والغنى بالعلم هو غناها الحقيقي، فغناها بعلمها هو الغنى، وغناها بمالها هو الفقر.
  16. إن اللذة الحاصلة من غنى المال إما لذة وهمية وإما لذة بهيمية، فإن صاحبه إن التذَّ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذة وهمية خيالية، وإن التذَّ بإنفاقه في شهواته فهي لذة بهيمية، وأما لذة العلم فلذة عقلية روحانية، وهي تشبه لذة الملائكة وبهجتها. وفرق بين اللذتين.
  17. غنى المال مقرون بالخوف والحزن، فهو حزين قبل حصوله، خائف بعد حصوله، وكلما كان أكثر كان الخوف أقوى، وغنى العلم مقرون بالأمن والفرح.
  18. من قُدِّم وأُكرم لماله إذا زال ماله ذهب تقديمه وإكرامه، ومن قُدِّم وأُكرِم لعلمه فإنه لا يزداد إلا تقديماً وإكراماً.
  19. غنى المال يبغضُ الموت ولقاء الله، فإنه لحبه ماله يكره مفارقته ويحب بقاءه، وأما العلم فإنه يحبِّبُ للعبد لقاء ربه، ويزهده في هذه الدنيا الفانية.
  20. الأغنياء يموت ذكرهم بموتهم، والعلماءُ يموتون ويحيا ذكرُهم.

نصوص الشريعة عن طلب العلم

احتفى خطاب الشريعة بالعلم احتفاء كبيراً؛ فحث عليه، ومدح طالبه، ووعده بالأجر الجزيل والثواب العظيم. وسنستعرض عدداً من آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تتحدث عن طلب العلم.

آيات قرآنية عن طلب العلم

وردت في الذكر الحكيم آيات عديدة تبين فضل العلم وأهله، ومن ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة والذي يبين فيه درجة طلبة العلم وأهله: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ﴾ (المجادلة : 11)
وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر والذي جاء بطريقة الاستفهام الإنكاري: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ (الزمر : 9)
وقوله تعالى في سورة فاطر والذي بين فيه أن خشية الله ملازمة للعلم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر: 28)

وغير ذلك كثير، ولكن فيما ذكر كفاية لبيان احتفاء القرآن الكريم بطلب العلم، وتشجيعه عليه.

أحاديث شريفة عن طلب العلم

لم يكن احتفاء الإسلام بطلب العلم حكراً على نصوص القرآن الكريم، بل في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الكثير من النصوص المعتنية بهذا الشأن.
منها ما رواه معاوية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من يرد الله به خيراً يفقه في الدين.”
وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مبيناً فضل المتفقه وتقدمه على غيره قال: “النَّاسُ مَعادِنُ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلَامِ إذَا فَقُهُوا.”

أما حديث أبي الدرداء رضي الله عنه والذي جمع فيه صلى الله عليه وسلم من الفضائل والمراتب للعالم ما يكفي المرء ليقنع بفضل هذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ”.

من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع

مرت معنا سابقاً بعض الأحاديث في فضل طلب العلم، ولكن حديثاً منتشراً بين الناس يقول فيه صلى الله عليه وسلم: “من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع”. فقد تحدث فيه أهل الحديث؛ فمنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه، ولكن معناه صحيح لما يعضده من أحاديث أخرى؛ فالخارج في طلب العلم إذا كان قاصداً بذلك وجه الله، ونفع الناس، ونشر الخير، فهو في سبيل الله، وأي شيء أعظم من إحياء السنن، وإماتة البدع، وتبصير الناس بطريقهم، وإرشادهم إلى هدى الله.

كلمات عن طلب العلم

إن طريق العلم ليس طريقاً سهلاً ميسراً مفروشاً بالورود، بل فيه من المشقة والصعوبة ما يدفع بعض السالكين له إلى نبذه والخروج عنه، ولا يصبر على درب العلم إلا الأفذاذ الأبطال الذين غرموا بالعلم وذاقوا لذته وعلموا شرفه، ولولا ذلك لكان كل الناس علماء، ولمَا حصل التمايز والتباين بينهم.

لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُّهمُ

 

الجود يفقر والإقدام قتَّال

لذلك لا بد أن يكون عند طالب العلم رصيدٌ كافٍ ووقود لا ينقطع من الهمة العالية التي تدفعه للمضي في هذا الطريق وتشدُّ عضده إذا ما شعر باليأس والملل.

وقد تواترت كلمات العلماء والوعاظ شعراً ونثراً في هذا الميدان، وعلى رأس هذا الكلام كلام المولى عز وجل والذي أمر فيه نبيه ومن بعده بأن يستزيدوا لا من المال ولا من الجاه بل من العلم، قال تعالى في سورة طه: … ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا﴾ (طه : 114)

ثم حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذي رواه الحسن بن علي رضي الله عنه وفيه دعوة صريحة إلى علو الهمة وتجنب التفاهات قال: إن الله تعالى يحبُّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها.

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: تعلَّمُوا العلم، فإن تعلُّمه خشية، وطلبه عباده، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وبذله قربة، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقة.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: اطلبوا العلم، فإن لم تطلبوه فأحِبُّوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذا العلم يزيد الشريف شرفاً، ويُجلس المملوك على الأسِرّة.

روى الخلال أن رجلًا سأل الإمام أحمد رحمه الله: إني أطلبُ العلم، وإن أُمِّي تمنعني من ذلك، تريدُ حتى أشتغل في التجارة، قال له: دَارِها وأرضِها، ولا تدع الطلب.

قيل للشافعي: كيف شهوتك في العلم؟ قال: أسمع بالحرف – يعني الكلمة – مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم بما تنعمت به الأذنان. وقيل له: كيف حرصك على العلم؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال الشافعي: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.

يحكي الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن طلبه العلم وهو طفل صغير جداً فيقول: ربما أردت البكور في الحديث؛ أي: كان أحياناً يريد التبكير في الخروج في طلب العلم لأن المعلوم أن البركة في البكور، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “اللهم! بارك لأمتي في بكورها”، وهو الوقت الذي بعد صلاة الفجر، فكان يخرج قبل أذان الفجر حتى يلتمس الحديث، يقول: ربما أردت البكور في الحديث، فتأخذ أمي بثيابي حتى يصبح الناس.

قال النضر بن شميل: لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه.

قال الإمام ابن حزم رحمه الله: لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويحبُّونك، وأن العلماء يحبُّونك ويكرمونك، لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة؟

قال الإمام النووي رحمه الله: الاشتغال بالعلم من أفضل القرب وأجلّ الطاعات وأهم أنواع الخير، وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، وشمر في إدراكه والتمكن فيه أصحاب الأنفس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى الخيرات.

قال الحسن رحمه الله: لباب واحد من العلم أتعلمه، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: العلم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحرين. وهو الميزان الذي به تُوزن الأقوال والأعمال والأحوال. وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال.

به يُعرف الله ويُعبد، ويذكر ويُوحد، ويُحمد ويمجد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون وبه تعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام وبه تُوصل الأرحام وبه تُعرف مراضي الحبيب وبمعرفتها ومتابعتها يُوصل إليه من قريب

قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: طلبُ العلم أفضل من صلاة النافلة.

شعر عن طلب العلم

احتفى الشعراء متقدموهم ومتأخروهم بالعلم أيما احتفاء، فبينوا فضائله وذكروا أهميته وأثره.

قال الشافعي:

رأيت العلم صاحبه كريم

 

ولو ولدته آباء لئام

وليس يزال يرفعه إلى

 

أن يعظم أمره القوم الكرام

ويتبعونه في كل حال

 

كراعي الضأن تتبعه السوام

فلولا العلم ما سعدت رجال 

ولا عرف الحلال ولا الحرام

وقال أحمد شوقي:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم

 

لم يبن ملك على جهل وإقلال

وقال محمود سامي البارودي:

العلم يرفع بيتاً لا عماد له

 

والجهل يهدم بيت العز والشرف

كما حث الشعراء في أشعارهم على الاجتهاد في الطلب وترك الكسل، لأن العلم لا ينال براحة الجسد، وكما قيل: من لم يجلس في صغره حيث يكره، لم يجلس في كبره حيث يحب وقد عبر الشعراء عن تلكم المعاني بأبيات وقطع شعرية جميلة،

من ذلك قول أبي تمام:

بَصُرتَ بِالراحَةِ الكُبرى فَلَم تَرَها

 

تُنالُ إِلّا عَلى جِسرٍ مِنَ التَعَبِ

وقول الآخر:

فقل لمرجي معالي الأمور

 

بغير اجتهاد رجوت المحالا

وقال ابن فارس اللغوي يصف حال المتكاسلين والمتعللين بالعلل التافهة:

إذا كان يؤذيك حر المصيف

 

ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن جمال الربيع

 

فأخذك للعلم قل لي متى؟

وقال أحد الشعراء واصفاً طريق الوصول إلى العلياء

بِـقَـدْرِ الْـكَـدِّ تُـكْـتَسَبُ الْمَعَالِي

 

وَمَـنْ طَـلَـبَ الْعُلَا سَهِرَ اللَّيَالِي

وَمَـنْ رَامَ الْـعُـلَا مِـنْ غَـيْـرِ كَـدٍّ

 

أَضَـاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمُحَالِ

تَــرُومُ الْــعِــزَّ ثُــمَّ تَــنَـامُ لَـيْـلًا

 

يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللَّآلِي

وقال الشافعي:

تصبَّرْ على مُرِّ الجَفا من معلمٍ

 

فإنَّ رسوبَ العِلم في نفَراتِه

فمَن لم يذُقْ مرَّ التعلُّم ساعةً

 

تجرَّع ذلَّ الجَهْلِ طولَ حياتِه

ومَن فاته التَّعليمُ وقتَ شبابه

 

فكبِّرْ عليه أربعًا لوفاتِه

وذاتُ الفتى واللهِ بالعِلْم والتُّقى

 

إذَا لم يكونَا لا اعتبارَ لذاتِه

ومن الشعراء من مدح العلم بمدح نفسه وسيرته في طلب العلم وهمته له

كما قال ابن عقيل

ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي

 

ولا ولائي ولاديني ولا كرمي

وإنما اعتاد شَعري غير صبغته

 

والشيب في الشَّعر غير الشيب في الهممِ

وكذلك الزمخشري حيث قال:

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي

 

من وصل غانية وطيب عناق

وتمايلي طربا لحل عويصة

 

أشهى وأحلى من مدامة ساق

وصرير أقلامي على أوراقها

 

أحلى من الدوكاء والعشاق

وألذ من نقر الفتاة لدفها

 

نقري لالقي الرمل عن أوراقي

أأبيت سهران الدجى وتبيته

 

نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي

10 آداب لطلب العلم

يجب أن يُعلم أن للعلم آداباً لا بد لطالب العلم أن يتحلى بها، فقد يعاشر الناس المؤدب الجاهل، ويزدرون العالم قليل الأدب.

والآداب كثيرة عديدة، أفردت فيها تصانيف، وألفت لأجلها مؤلفات، وسنذكر للقارئ الكريم عشرة من هذه الآداب، ومن ثَم نحيله إلى بعض المصادر ليستزيد منها ما أراد.

  1. الصبر على العلم والمعلمين:
    قال الشافعي:

    اصبرْ على مرِّ الجفا من معلمٍ

     

    فإنَّ رسوبَ العلمِ في نفراتِهِ

    ومنْ لم يذقْ مرَّ التعلمِ ساعةً

     

    تجرَّعَ ذلَّ الجهل طولَ حياتِهِ

  2. التواضع للمخلوقين: لأن العلم منة وفضل من الله تعالى أولاً وأخيراً، فلا ينبغي أن يتكبر الإنسان بنعم الله عليه، فلربما سلبه الله تلك النعمة ووضعها عند من كان يتكبر عليه.
    فها هو ذا ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن يقوم إلى زيد بن ثابت فيأخذ بركابه، فيقول له زيد: تنحَّ يا ابن عم رسول الله ﷺ، فقال: إنما هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا.
  3. حسن الخلق وطيب الكلام وتجنب فحشه ومرذوله.
  4. الابتعاد عن ما يسقط الأخلاق ويخرم المروءات
  5. اغتنام الأوقات والابتعاد عن الملهيات والتفاهات.
  6. الحذر من الاشتغال بمسائل اختلافات العلماء.
  7. الانشغال بالعلم النافع وتقديم الأهم فالأهم.
  8. تقوى الله وتجنب المعاصي.
    قال الشافعي:

    شكوت إلى وكيع سوء حفظي

     

    فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وأخبرني بأن العلم نورٌ

     

    ونور الله لا يُهدى لعاصي

  9. رحابة الصدر وتقبل النقد.
  10. عدم التعصب الأعمى للعلماء.

شعر عن أدب العلماء

وقد وصف شاعر حال جماعة من العلماء فأحسن وأجاد:

ولله قوم كلما جئت زائراً

 وجدت نفوساً كلها ملئت حلماً

إذا اجتمعوا جاؤوا بكل طريفة

 

ويزداد بعض القوم من بعضهم علماً

تساقوا كؤوس العلم في روضة التقى

 

فكلهم من ذلك الرأي لا يظما

نفوس على لفظ الجدال قد انطوت

 

فنبصرها حرباً ونعقلها سلماً

وما ذاك من جهل بهم غير أنهم

 

لهم أسهم شتى تنكبت المرمى

أولئك مثل الطيب كل له شذى 

ومجموعه أذكى أريجاً إذا شمّاً

ما الشرط في طلب العلم لتحقيق الوعد الرباني؟

وعد الله العلماء بالدرجات الرفيعة والمنزلة الكريمة، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في هذا المقال، ولكن ليس كل عالم ينال ذلك الوعد، بل منهم من يكون العلم حجة عليه يزيد من عذابه وعقابه كما قال الله في كتابه العزيز:
﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف : 175-176)

فهذا مثل لرجل آتاه الله العلم والآيات، ولكنه انسلخ منها، وأعرض عنها، فكان جزاءه العذاب والعقاب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والقرآن حجة لك أو عليك”.
فالقرآن الذي يتعلمه الإنسان قد يكون حجة عليه يوم القيامة إذا لم يستوف الشروط اللازمة.

وشروط طلب العلم هي

  • إخلاص النية لله تعالى، وقصد وجهه الكريم بهذا العلم لئلا يكون من النفر الذين تسعر بهم النار يوم القيامة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ إذا كان يومُ القيامةِ ينزلُ إلى العبادِ لِيقضيَ بينهم، وكلُّ أمةٍ جاثيةٌ، فأولُ مَن يدعو به رجلٌ جمع القرآنَ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيل اللهِ، ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ اللهُ للقارىءِ: ألم أُعلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي قال: بلى يا ربِّ قال: فماذا عمِلتَ فيما علمتَ؟ قال : كنتُ أقوم به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فيقولُ اللهُ له: كذَبْتَ، وتقول له الملائكةُ: كذَبْتَ، ويقول اللهُ له: بل أردتَ أن يقال فلانٌ قارىءٌ، فقد قيل… يا أبا هريرةَ أولئك الثلاثةُ أولُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النَّارُ يومَ القيامةِ”.
  • العمل بالعلم: فطلب العلم لا يؤتي أكله إلا إذا نشره بين الناس كما فعل أبو هريرة رضي الله عنه في الحديث الذي مر معنا.
  • خشية الله تعالى وتقواه: فغاية العلم هو الوصول إلى تقوى الله وخشيته، فمن لم يصل إلى هذه المرتبة فما فائدة العلم الذي يحمله في صدره؟!

قال عبد الله بن المبارك: أكثركم علماً ينبغي أن يكون أشدكم خوفاً.
قال سفيان الثوري: إنما يُطلب العلم ليُتقى الله به، فمن ثمّ فُضِّل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: بحسب المرء من العلم أن يخشى الله.

نيّات طلب العلم

نية طالب العلم ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى، وابتغاءً لمرضاته، وقصداً لتعليم الناس ونشر الخير بينهم، أما تعلم العلم لإصابة حظ من الدنيا فقط من سمعة أو شهرة أو مكانة أو مال فهذا مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: “من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم”.
ولا يخفى أن العالم قد يصيبه شيء من حظوظ الدنيا كالشهرة والسمعة الطيبة ولربما المال الوفير، ولكن العالم الحق لا يطلب ذلك ابتداء، إنما تأتيه هذه الحظوظ تبعاً لما يقدمه من علم نافع مقرون بنية صالحة، فذلك من نعيم الله المعجل له.

عدم الحياء في طلب العلم

الحياء هو الاحتشام الذي يمنع صاحبه من الوقوع فيما يُستحيى منه.
وهو من الصفات المحمودة في الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والحياء شعبة من الإيمان”، وقال عليه الصلاة والسلام: “الحياء لا يأتي إلا بخير”.

ولكن قد تعرض للمرء مواقف قد يضطر فيها للسؤال عما يُستحيى الخوض فيه عموماً، فهنا يكون السؤال بحقه واجباً إن كان يؤثر على دينه وعمله، فعندئذ لا يكون سؤاله خرقاً للحياء، بل طلباً للعلم النافع، فها هن أولاء نساء الأنصار، وهن أكثر المؤمنات حياء وتستراً، ولكنهن كن عالمات بحدود الحياء، فلم يكن يمنعهن ذلك من التفقه في أمور دينهن كما قالت عائشة رضي الله عنها: “نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين”. رواه مسلم.

وها هي ذي أم سليم تأتي النبي صلى الله عليه وسلم لتسأله عن أمر ليس من الأخلاق التحدث فيه عادة إلا في مقام التعلم والتفقه تقول: يَا رَسولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ فَهلْ علَى المَرْأَةِ الغَسْلُ إذَا احْتَلَمَتْ؟ قالَ: نَعَمْ، إذَا رَأَتِ المَاءَ. فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقالَتْ: تَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَبِمَ يُشْبِهُ الوَلَدُ؟

همة السلف في طلب العلم

الحديث عن همة السلف في طلب العلم حديث واسع لا يكاد يُحاط به لكثرة ما ورد عنهم من ذلك، فمنهم من كان يسافر الأيام والليالي طلباً لحديث واحد، ومنهم من كان يبيع كل متاعه ابتغاء شراء كتاب، ومنهم من كان يبيت الليالي جائعاً فارغ البطن وما ذلك إلا لانشغاله بطلب العلم عن طلب غيره.

ويعد كتاب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) من أجمع ما كتب في هذا المجال، فمن أراد الاطلاع على حال السلف في طلب العلم فليطالع هذا الكتاب ليرى العجب العجاب، وليقرأ قصصاً لا يكاد يصدقها الواحد منا اليوم، وذلك لبعدنا عن طلب العلم، وضعف همتنا فيه، والتي قد تجعلنا ننكر حال سلفنا مع طلب العلم.

صحابي جليل كان حريصاً على طلب العلم

لقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس فهماً لنصوص الوحي وتطبيقاً له، كيف لا وقد عاشوا مع الحبيب المصطفى ونهلوا من علومه مباشرة دون واسطة، وقد فهموا تلكم الأحاديث السابقة في فضائل طلب العلم وطبقوها أيما تطبيق، وأمثلة ذلك كثيرة عديدة، ولكننا سنكتفي بذكر مثال واحد لصحابي كان حريصاً أشد الحرص على طلب العلم.

تأخر إسلام هذا الصحابي حتى العام السابع من الهجرة، ولم يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربع سنوات، إضافة إلى أنه كان فقيراً من أصحاب الصفة، عاش الجوع والفاقة حتى قال عن نفسه: “لقد رأيتُني أُصرع بين منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحجرة عائشة، فيقال: مجنون، وما بي جنون، ما بي إلا الجوع!”، إلا أن هذا الأمر لم يثنه عن طلب علم النبي صلى الله عليه وسلم، بل زاده حرصاً على إدراك ما فاته في أيام الجاهلية حتى صار وعاء السنة ومُسند الصحابة وأكثرهم رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموع جاوز خمسة آلاف وثلاثمئة حديث.

ولكن كيف جمع كل تلكم الأحاديث في هذه المدة الوجيزة؟
لنترك له الكلام رضي الله عنه محدثاً عن نفسه قال: إنكم تقولون إني أكثر الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدِّثون عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل حديثي؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفقٌ بالأسواق، وكنتُ ألزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ملء بطني، فأشهدُ إذا غابوا، وأحفظ إذا نسَوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عملُ أموالِهم، وكنتُ امرأً مسكيناً من مساكين الصُّفَّة أعي حين ينسون.

إذن فقد قنع رضي الله تعالى عنه بالجوع والفقر مقابل أن يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفارقه أبداً، لينهل من علومه الشريفة، ويتبرك بآثاره العطرة.

وقد كان سبب كل هذا الحفظ – بالإضافة إلى حرصه على طلب العلم – بسبب بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال عن نفسه: قلت: يا رسول الله! إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه؟ قال: “أبسط رداءك”، فبسطته، قال: فغرف بيديه ثم قال: “ضُمَه”، فضممتُه فما نسيت شيئاً بعده!
ولم يستأثر رضي الله تعالى بهذا العلم لنفسه، بل نشره فيمن حوله حتى بلغ طلابه المئات.
هذا غيض من فيض سيرة عطرة لصحابي جليل رحمه الله تعالى ورضي عنه.

ونحسب أنكم قد عرفتموه بوصفه وسيرته المتقدمة، إنه الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر المكنى بأبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

قصص العلماء في طلب العلم – بقي بن مخلد

قصص العلماء في طلب العلم كثيرة عديدة، فيها نماذج الصبر على الجوع والعطش وضيق العيش لقاء طلب العلم، وفيها قصص للأسفار والمسافات التي كانت تقطع لأجل حديث أو مسألة علمية، وفيها أخبار هجر الراحة والنوم والدعة لانشغالهم بالتحصيل والطلب، ولا عجب في ذلك، فالأمة التي أنتجت الحضارة وامتدت ما بين المشرقين وحققت العلوم وأظهرت للبشرية أعظم نموذج يقتدى به، لا بد أن تقوم على أمثال هؤلاء العلماء ذوي الهمم.

وسنذكر للقارئ الكريم قصة عجيبة لعالم من علماء الأندلس قال فيه الإمام الذهبي رحمه الله: الإمام، القدوة، شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ، صاحب (التفسير) و(المسند) اللذين لا نظير لهما.

ونقل بعض العلماء من كتاب لحفيد بقي عبد الرحمن بن أحمد: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلاً بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل.

قال: فلما قربت بلغتني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممت غماً شديداً، فاحتللت بغداد، واكتريت بيتاً في فندق، ثم أتيت الجامع وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدُفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين. ففُرجت لي فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا: رحمك الله، رجل غريب ناء عن وطنه، يحب السؤال، فلا تستجفني، فقال: قل. فسألت عن بعض من لقيته، فبعضاً زكَّى، وبعضاً جرح، فسألته عن هشام بن عمار،

فقال لي: أبو الوليد، صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلداً كبراً ما ضره شيئاً لخيره وفضله، فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك – رحمك الله – غيرك له سؤال. فقلت – وأنا واقف على قدم: اكشف عن رجل واحد: أحمد بن حنبل، فنظر إلي كالمتعجب، فقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن أحمد! ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدُللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي. فقلت: يا أبا عبد الله: رجل غريب نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك.

فقال: ادخل الأصطوان ولا يقع عليك عين. فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى. فقال: إفريقية؟ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس. قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك، غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك.

فقلت: بلى، قد بلغني وهذا أول دخولي وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي كل يوم في زي السؤُّال، فأقول عند الباب ما يقوله السؤال، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني كل يوم إلا بحديث واحد، لكان لي فيه كفاية. فقال لي: نعم، على شرط أن لا تظهر في الخلق، ولا عند المحدثين.

فقلت: لك شرطك. فكنت آخذ عصا بيدي وألف رأسي بخرقة مدنسة، وآتي بابه فأصيح: الأجر – رحمك الله – والسؤال هناك كذلك، فيخرج إلي، ويغلق ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد، وعلت إمامته، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة ويقرؤه علي وأقرؤه عليه.

الحفظ مع الفهم في طلب العلم

لا شك أن من مراحل طلب العلم الحفظ، ولا ينكر عاقل أهمية الحفظ في ميدان طلب العلم، فبه تضبط المسائل في الذهن، وتسترجع عند الطلب، بل إن الحفظ يزيد من فهم الطالب لما يتعلمه، خاصة أن تثبيت الحفظ يحتاج إلى تكرار، وهذا التكرار يزيد من الفهم والإدراك للمحفوظ،

إضافة إلى أن الحفظ وسيلة لنقل العلم من جيل إلى جيل، وإلا فكيف وصلنا القرآن الكريم والسنة المطهرة لو لم يكن الحفاظ بالوفرة الكافية لنقله طبقة بعد طبقة!
فالعالم الحق هو الحافظ الضابط للمسائل التي يعلمها، فلا يحتاج مع كل صغيرة وكبيرة إلى العودة إلى المراجع والكتب ليبحث عن تلكم المسالة.

قال الشافعي رحمه الله تعالى:

 عِـلْـمِـي مَـعِـي حَـيْـثُـمَـا يَـمَّـمْـتُ يَـنْفَعُنِي

 

قَــلْــبِــي وِعَــاءٌ لَــهُ، لَا بَــطْــنُ صُـنْـدُوقِ

إِنْ كُـنْـتُ فِـي الْـبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي

 

أَوْ كُنْتُ فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ

وقال ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى:

 فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي

 

تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي

 

وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

ولكن ما سبق لا يعني أن الحفظ وحده يجعل من الحافظ عالماً، بل لا بد أن يقرن الحفظ بالفهم والفقه بالمحفوظ، وإلا فإن هذا الحافظ لا يجب أن يتجاوز ما حفظه وألا يتعدى إلى ما لا يعلمه، ولو اكتفى الحافظ بتبليغ محفوظه بضبط لكان ذلك خيراً.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: “نَضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منَّا شيئًا فبلَّغَهُ كما سمِعَهُ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سامِعٍ”.
ولكن المشكلة في الحافظ الذي يظن نفسه عالماً فيتعدى إلى القول في مسائل العلم بجهل فيَضل ويُضل.

العلاقة بين العلم الشرعي وغيره

العلم الشرعي هو العلم بشرع الله، وبكل ما يتوصل به إلى معرفة الخالق والإيمان به، فمن العلوم ما يوصل إلى ذلك مباشرة وهي العلوم الشرعية المعروفة والتي تتعلم لذاتها كعلوم القرآن والتفسير والفقه والحديث…

ومن العلوم ما يُتوصل به إلى الإيمان بطريق غير مباشرة، وهذه علوم لا تقصد لذاتها إنما لكونها وسيلة إلى الوصول إلى الله تعالى، ويندرج تحت هذه القسم كل ما عدا العلوم الشرعية من علوم كونية واجتماعية كالطب والفيزياء والفلك والحساب والتاريخ…
ولا شك أن القسم الأول أعلى وأسمى من القسم الثاني، قال صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيراً يفقه في الدين”.

ولكن ذلك لا ينبغي أن يفهم منه التزهيد ببقية العلوم، فهي مهمة لإعمار الأرض، ونفع الناس ونشر الخير، بل قد يهتدي العالم بالعلوم الكونية إلى الله تعالى، ويزيد إيمانه به سبحانه أكثر من العالم بالعلوم الشرعية.

فالغاية هي الوصول إلى الله تعالى بحق وخشيته وتقواه، فمن نال ذلك بأي طريق فهو الفائز السعيد، والموفق من وفقه الله تعالى للجمع بين علم شرعي يصلح به آخرته، وعلم دنيوي يصلح به دنياه.

أهمية طلب العلم الشرعي

تقدم معنا أن العلم الشرعي في العموم مقدم على غيره من العلوم، وأن هذا العلم يُقصد لذاته، لعظم ما يحتويه، فهو إما علم مرتبط بالقرآن وإما بالسنة، ولا يوجد علم شرعي يخرج عن الوحيين بحال من الأحوال، فمكانة هذه العلوم ترجع إلى عظم مكانة موضوعها ومجال بحثها، وقد تقدم الحديث الشريف: من يردالله به خيراً يفقهه في الدين، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله ابن عباس بأن يزيده الله من العلم الشرعي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: اللهمَّ فَقِّهْه في الدِّينِ، وعلِّمْه التأويلَ.

فإياك أن تزهد بهذه العلوم بذريعة أن العالم المتحضر اليوم يبحث عن متخصصين في علوم الكون والفزياء والحاسوب… ويرفع مكانتهم ويقدر أعمالهم.

فإن كان ذلك صحيحاً فإن حاجة العالم اليوم إلى العلماء الربانيين أشد ما تكون لابتعاد الناس عن دينهم، وإغراقهم في الماديات والإلحاد والشذوذ وغيرها من المصائب التي إن عمت واستشرت في جسد العالم فإن كل علومه الكونية لن تدفع عنه نهايته المحتومة.

دعاء طلب العلم

ورد في لسان الشرع عدد من الأدعية الخاصة بطلب العلم، من ذلك قول الله تعالى في القرآن الكريم مخاطباً نبيه الكريم: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾

ووردت في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم عبارات تدعو لزيادة العلم وحفظه، ومن ذلك: اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدني علماً.

وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: اللهم ذكرني ما نسيت، واحفظ علي ماعلمت، وزدني علماً.

وكان من دعاء أبي محمد الجويني في قنوت الصبح: اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق، ولا تمنعنا عنه بمانع.

ولا يمنع أن يدعو الإنسان ربه بما شاء من الأدعية في هذا المجال كأن يقول:
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفقعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وفقهاً، وقلل نسياننا، وبارك في أوقاتنا، وارزقنا علماً نافعاً، وفهماً واسعاً، وحكمة من لدنك يا رب العالمين.

الكاتب: أ. مهند غزال

شارك المقال مع اصدقـائك: