فضل العلم والتعلم
إنّ مفهوم العلم بفحواه الحقيقيّ مفهوم واسع جدّاً، بل هو أوسع من أن يحيط به عقل بشريّ مهما بلغ من علم، فالعلم حقيقة هو علم الغيب، كما أنّه علم الشهادة الذي نحن معنيّون به، وصفة العلم على إطلاقها لا تُنسب إلّا إلى الله تعالى عالم الغيب والشهادة؛ أمّا ما يُنسب إلى البشريّة من علم فلا يتعدى القدر الذي يسمح الله تعالى بوصوله إلى الإنسان بما يتوافق مع احتياجاته البشرية، وحياته على الأرض. قال الله تعالى: { وما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً } [ الإسراء:85 ]؛
لذلك فإنّ فضل العلم ينطلق من أهميّته وضرورته لحياة الإنسان، وإعماره لهذا الكون واستغلال ماسخّره الله للإنسان لخدمة الإنسان على أكمل وجه ممكن، وتذليل الصعوبات والتحديات التي تعترض البشريّة في حياتها على الأرض، وتوفير أقصى مايستطيع تحقيقه من الرفاهية التي بدورها تساعد في الوصول إلى المزيد من المعرفة؛ فالعلم نوريضيء درب الإنسان فيتمكّن من سبر الأغوار وخرق أستار الحجب، كما أنّ العلم يُمكّن الإنسان من استجلاب النّفع واستحضار الخير ممّا هو ضارّ.
يقول الشاعر:
العلم يُحيي قلوب الميّتين كما — تحيا البلاد إذا مامسّها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه — كما يجلو سواد الظلمة القمر
والعلم يحرّر الإنسان من قيود الأوهام والتبعيّة للقوى المهيمنة، ويفتح أمام المرء أُفقاً خضراء للوصول إلى غاياته المرجوّة.
ويمكننا القول: إن العلم بصورةٍ عامة ينقسم إلى قسمين، علم مفروضٌ وهو علم الدين والشريعة، والقسم الثاني هو العلوم الدنيوية على كثرتها وتنوّعها وتباينها، وهذا العلم ليس مفروضاً ولكنّه مطلوب بكلّ المعايير؛ ولكلّ قسمٍ من هذين القسمين أهميّته وفضله على الإنسان.
فضل العلم والتعلم
بالعلم ترتقي الأمم وتسود وتخرق حجب المستحيل وتحقق المعجزات، ويمكن معرفة فضل العلم بمقارنته مع الجهل، فالعلم مرتعه واسع والخوض فيه مُؤتَمنٌ لأنه نور، وثماره مكفولةٌ ونافعةٌ، بينما الجهل مرتعه وخيم والخوض فيه مضيَعةٌ لأنّه ظلام، وثماره شائكةٌ وضارّةٌ. والعلم من أهمّ الأسباب التي توصل إلى العلياء، وتمهّد الطريق للتّغلّب على الأعداء، وبالعلم تزدهر البلاد وتبني الأمم الحضارات، وتحقق أعظم الإنجازات، وبالجهل تتقهقر البلاد وتعود إلى الوراء وتندثر الحضارات وتنعدم الإنجازات.
وتحصيل المعرفة بحد ذاته إنجاز على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والعالم بأسره، لأنّ الفائدة منه يجنيها العالم أجمع؛ فكما أنّ الإنسان المتعلّم يرتقي بنفسه ممّا يُؤثّر في نهج حياته نحو الأفضل وكذلك الأسرة المتعلّمة تختلف جذريّاً عن الأسرة الجاهلة في مستوى الحياة المادّي والمعنوي وعلى كلّ الأصعدة، ويتبع ذلك المجتمعات والبلدان، فهي مُتباينة في الرفاهية والتقدّم التكنولوجي الذي تعود فائدته على أغلب أفراد شعوب البلدان المتقدمة. ثمّ إنّنا نرى كيف أن العالم برمّته يستفيد ويتمتّع بالإنجازات العلمية التي يحقّقها البعض في بعض الدول.
على سبيل المثال الهاتف المحمول يستفيد منه أغلب سكان العالم حتى في أكثر الدول تخلّفاً؛ والحقيقة أنّ فضل العلم وفائدته تراكميٌّ بمعنى أنّنا لا نجني اليوم ثمار التقدّم الذي حصل في القرن الواحد والعشرين فقط بغضّ النّظر عما أُحرِزَ من من تقدّمٍ في القرون السابقة، لأن هذا العلم والتقدم الحديثين مبنيّان على ماسبق، والفضل موصول إلى الاكتشافات العلميّة الأولى وواضعي العلوم على اختلافها.
فضل العلم في الإسلام
خصّ الله تعالى العلم والتعلم بفضل عظيم ومكانةٍ رفيعة وخاصّة العلم الشرعيّ ليحثّ الناس على التفقّه في الدين، ومعرفة المنهج الذي وضعه الله للمسلمين ليلتزموا به فيختصروا الكثير من التجارب الفاشلة التي يضيع معها العمر والوقت مع عدم الالتزام بهذا المنهج، ويتفرغوا لإعمار الأرض بالعلم والسعي.
فكان من رحمة الله بنا أن وضع لنا هذا المنهج وفرض علينا الالتزام به، ووعد بحسن العاقبة للملتزمين؛ وقد بين سبحانه وتعالى فضل العلم وطلبه وفضل العلماء في كثير من الآيات الكريمه والأحاديث الشريفة، قال علّام الغيوب: { قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر: 9 ]. وقد اختصّ تعالى العلماء من بين الناس بوصفهم أنّهم يخافون الله: { إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } [ فاطر: 28 ].
والعلم نعمة وفضل يمنّ الله به على من يشاء من عباده، فقد اختصّ الله الأنبياء بهذه المنّة وهذا الفضل العظيم، قال تعالى مخاطباً نبيّه محمداً صلّى الله عليه وسلم: { وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء: 113]. وكذلك فالعلم منّة منَّ الله بها على الأمّة العربيّة الإسلامية، قال تعالى: { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويُعلّمكم الكتاب والحكمة ويُعلّمكم مالم تكونوا تعلمون } [ البقرة: 151 ].
والعلم عموماً فضل وخيرٌ يصيب مَن يُحصِّله، فقد جاء في الحديث الشريف قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ” مَن يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين ” صحيح البخاري (3116). وكان من المناسب في هذا المقام أن نعدد ثمرات تحصيل العلم الشرعي، فضلاً عمّا خصّ به الله تعالى طالب العلم الشرعي من فضلٍ ومكانة رفعية، جاء في الحديث الشريف: ” مَن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنّة، وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلّا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده “.
بعض ثمرات تحصيل العلم الشرعيّ:
١ـ التفقّه في الدين يوصل إلى معرفة الله، واليقين بوحدانيته، وأنّه لا معبود سواه، فيؤدي ذلك إلى مخافة الله، فيخشع قلب المؤمن ويزداد قربه من خالقه.
٢ـ العلم الشرعي يؤدي إلى العبادة الصحيحة وبشروطها الصحيحة والرجاء بأن تقبل من رب العالمين.
٣ـ تنوير البصيرة وتهذيب النّفوس، لأنّ العلم يقوّم سلوك النفس الإنسانيّة ويصحّح أفكار المسلم ويمحّص مفاهيمه ويقوده إلى الحكمة والتحلّي بمكارم الأخلاق.
٤ـ تحصيل العلم الشرعيّ مقدّمٌ على نوافل العبادات لأنّ طلب العلم فريضة والنّوافل سنّة.
٥ـ طلب العلم يُعدّ من الجهاد، جاء في الحديث الشريف: ” من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتّى يرجع ” سنن التّرمذي (2647).
آيات وأحاديث عن فضل العلم وأهميّته
ماجاء في القرآن الكريم بهذا الخصوص قوله تعالى: { وقل ربّ زدني علماً } [ طه: 114 ]، يحثّ الله تعالى على الاستزادة من العلم لأنّه مكرمة ومنفعة.
وجاء أيضاً في إظهار مكانة العلماء عند الله سبحانه وتعالى: { يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة: 11 ].
وقد بيّن الله في كتابه الكريم أنّ العالمِين هم الذين يتفكّرون في نواميس الله في الكون ويدركون الإعجاز فيها، فقال: { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، ماخلق الله ذلك إلّا بالحقِّ يُفصّل الآيات لقومٍ يعلمون } [ يونس: 5 ].
ويبيّن الله أنّ العلماء أكثر تأثّراً بكلام الله وأسرع استجابةً وأعظم خشوعاً وإخباتاً لعظمته وجلاله فيقول: { إنّ الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّداً، ويقولون سبحان ربِّنا إن كان وعد ربِّنا لمفعولاً، ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } [ الإسراء: 107 ـ 109 ].
وهناك الكثير من الأحاديث التي تبيّن فضل العلم وفرضيّته وأهميّته:
عن عبد الله بن عباس: ” طلب العلم فريضةٌ على كلّ مسلم “، أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ( 4096 ). وعن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- : ” خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه “، رواه البخاريّ (5027 ).
وفي فضل مَن علِمَ وعلّمَ أيضاً عن أبي موسى- رضي الله عنه -عن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- قال: ” مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيّةٌ قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنّما هي قيعانٌ، لاتمسك ماءً، ولا تنبت كلأً، فذلك مثل مَن فقُهَ في دين الله، ونفعه مابعثني الله به، فعلِمَ وعلّمَ، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلتُ به “. رواه البخاري (79).
فضل طلب العلم
بالإضافة إلى ما خصّ به الله تعالى طالب العلم بالفضل الكبير والحظ الوفير من رضا الله والثواب العظيم الذي سيحظى به في الدار الآخرة، فللعلم فضائل أخر إذ به تنضج العقول وترتقي الأهداف وتُصقل التصرّفات وتزكى النفوس وتُصيب الأقوال وتُسدَّدُ الخطا، وتجتمع عند طلّاب العلم أغلب صفات الخير ويغلب عليهم رجاحة العقل. قال تعالى: { يُؤتي الحكمة من يشاءُ ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراُ كثيراً وما يذّكّر إلّا أولو الألباب } [ البقرة: 269 ].
وعلاوةً على أنّ العلم يحقّق لطالبه بإخلاص حياةً سليمةً وعبادةً مقبولةً بإذن الله، وسعياً نحو أهدافٍ تعود عليه بالخير، فإنّه لا يخفى على أحد قيمة العلماء وما يحظون به من تبجيل وتوقير في كلّ زمان ومكان؛ فالعالم يفرض احترامه على الناس بفهمه العميق وحسن تصرّفه ولباقته وحكمته، ممّا يجعل أفئدة الناس تهوي إليه وآذانهم تصغي له. فيهرعون لاستشارته وأخذ رأيه فيما ينتابهم من حوادث الدهر.
ولا بد من التعقيب على نقطةٍ هامةٍ هنا وهي طلب العلم النافع، واختيار المصدر الموثوق لهذا العلم، لأنّنا مع الأسف في زمنٍ انتشرت فيه بعض العلوم الضارّة بشكلٍ أو بآخر، وكذلك هناك الكثير من المعلومات المدسوسة في بعض الكتب الدينية التي تحرّف أساسيّات هامّة في ديننا، فإنّي أهيب بطلّاب العلم حسن الاستعلام والاستقصاء عن مصادر العلوم الشرعيّة السليمة الخالية من التحريف، واختيار الأساتذة والمؤسسات التعليميّة الموثوقة، والانتساب إليها من أجل تلقّي العلم.
علاقة العلم بالعمل
العمل هو غاية العلم، ولا فائدة مرجوة من العلم إذا لم يقترن بالعمل، والعمل لا يتأَتّى إلّا بالعلم، إذ كيف للمرء أن يعرف ماهو مطلوبٌ عمله وماهي أفضل الأعمال بدون أن يعلم، وكذلك لا فائدة في العلم إلّا بتطبيقه، ونحن المسلمون نعوذ بالله في مُجمل دعائنا من علمٍ لا ينفع، لاينفع العالم نفسه أو ينفع الناس أو ينفع البشرية، لأنّ العلم موضوع بالأصل لتطبيقه والانتفاع به، ولأنّ العلمَ حجّةٌ للمرء أو حجّةٌ عليه يوم الحساب.
فضل العلم التجريبي على الإنسانيّة
عرضنا منافع وفضل تحصيل العلوم الشرعية على المسلم وعلى الأمّة الإسلامية في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وبما أنّ العلم التجريبي هو أحد أركان تقدّم البشرية وتطوّرها فقد ساهم في تحسين حياتنا بطرقٍ عديدة، و لا بدّ من عرض أهم منافع هذا العلم:
بالنسبة للمسلم؛ يثاب على تحصيل العلم التجريبي إذا نواه لله وهذا من فضل الله علينا، فكل مايفعله المسلم من المباحات وممّا ينفع البشرية يستطيع أن يجعله في ميزان حسناته باستحضار النيّة لله، ويمكن تلخيص فوائد العلم التجريبي بعدة نقاط:
- تعزيز الفهم والتوعية وتطوير إدراكات الإنسان؛ فبالعلم يستطيع الإنسان فهم مايحيط به من أحداث وظواهر طبيعيّة وحوادث بشرية واستنباط الأحكام الصحيحة منها.
- تحسين الرعاية الصحيّة في مواجهة الأمراض والوقاية منها والحيلولة دون انتشارها، وكذلك تطوير المجال الطبي من أدوية وعلاجات جديدة للوقوف في وجه الأمراض المستعصية.
- تطوير التكنولوجيا التي نقلت الإنسان نقلة نوعية إلى حياة أكثر راحة ومتعةً بفضل الأجهزة الكهربائية ووسائل الاتّصال والمواصلات.
- تحقيق نمو اقتصادي كبير من خلال استغلال الطاقات الكامنة في الأرض والاستفادة من الآلات والمحركات في الإنتاج وغيره.
- التغلّب على المشكلات البيئيّة التي تقف عائقاً أمام الاستثمار والتنمية، مثل التلوّث البيئي والتصحّر وتغيّر المناخ.
خاتمة
في الختام يمكننا القول: إنّ العلم هو إكسير الحياة الإنسانية، التي تتميّز عن حياة باقي المخلوقات باكتساب المهارات، وذلك بالوصول إلى المعرفة عن طريق العقل الذي مَنّ الله به على بني آدم، فكان مخلوقاً متميّزاً، يستطيع أن يتوصل إلى خبايا البيئة المحيطة به ويستقرئها ويستنبط منها الأحكام فيبني النظريّات ويضع الفرضيات ويقوم بالتجارب، فيكتشف ماينفعه ويخترع مايطوّره؛
ولهذا كان للعلم وطلبه فضل عظيم، لأنّ العلم هو السبب في تقدّم البشرية وتحقيق رفاهيّتها من جهة، ومن جهة أخرى فالعلم وسيلة الإنسان لضمان سعادة الدارين بتحصيل العلوم الشرعية والعمل بها؛ والسعي لطلب العلم أيضاً له فضل عظيم، لأنّ العلم لا يتحقّق إلّا بالسير في طريقه، وبذل الجهد والوقت والإخلاص له، فحبا الله تعالى طالب فضلاً عظيماً، إذ سهل الله له طريقاً إلى الجنة، فيكون العلم بهذا سبيلاً لنيل السعادة الأبديّة التي يرجوها كلّ إنسان، فيرتقي في دنياه ويفوز في أُخراه.
الأسئلة الشائعة عن فضل العلم والتعلم
لأنّ العلم النافع يصبّ حتماً في مصلحة الإنسان، وهو منجاة له في الآخرة من الخسران.
محاربة الجهل، وتنوير العقول، والتصرف المناسب في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، ونهوض الأمم، وإنشاء الحضارات.
من أقوال الإمام الشافعي المأثورة: “العلم مانفعَ، ليس ماحُفِظ”.
قال عليّ بن أبي طالب:
مالفضلُ إلّا لأهل العلم إنّهمُ
على الهدى لمن استهدى أدلّاءُ
الكاتبة: آ. هدى الصباغ
شارك المقال مع اصدقـائك: