fbpx

قراءة القرآن الكريم بالمقامات الصوتية

إن للجسم غذاء ينميه هو الطعام والشراب، كذلك للعقل والروح غذاء أيضاً؛ فأما غذاء العقل فهو العلم والحكمة، وأما غذاء الروح فهو كلام الله تعالى:

﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]

قراءة القرآن الكريم بالمقامات الصوتية

سجل معنا وابدأ تجربة تطبيق زلفى لتعلم القرآن واللغة العربية

تسجيل سريع في تطبيق زلفى

جدول المحتويات

ومن المعلوم أن ليس كل غذاء يعود بالفائدة على طاعمه، بل قد يعطي آثاراً مرضية ومميتة أحياناً.

فالطعام والشراب منه المفيد الصحي للجسم، ومنه الضار والمميت.

وللعقل أيضاً الغذاء النافع والضار بحسب نوعية المعلومات التي يتلقفها الإنسان وطريقة تلقيها؛ فالعلم إما أن ينفع ويرفع صاحبه، وإما أن ينحط به ويفسد عقله.

أما الروح فلها أن تتغذى من ينبوع صاف طيب يقويها ويرتقي بها كالقرآن الكريم، وإما أن تتغذى بما يؤذيها ويكون سبب شقائها كالأغاني الفاحشة والموسيقى الماجنة.

وكلا النوعين من غذاء الروح يسبب للإنسان شعوراً جميلاً في الحقيقة، ولكن الفرق أن الأول يدوم أثره ويثمر سعادة وطمأنينة بينما الثاني له أثر لحظي ينتهي بزواله، ويخلف تعاسة على المدى البعيد.

أولاً: المقامات الصوتية

المقام الصوتي أو الموسيقي هو مجموعة من النغمات التي يتم صياغتها بأبعاد محددة لتشكيل نغم بمذاق موسيقي خاص، سواء كانت لتلاوة القرآن، أو الإنشاد، أو الغناء، وتتمثل المقامات بسلم موسيقي متكون من ٨ درجات (دو، ري، مي، فا، صو، لا، سي، دو)، حيث تسمى كل درجة ديوان، ويبدأ المقام بدرجة منخفضة تسمى (القرار)، وينتهي بدرجة مرتفعة تسمى (الجواب)، ويمكن القول: إن المقام الموسيقي هو الحيز أو الإطار الذي تتحرك فيه نغمات الصوت لإصدار موسيقي خالٍ من النشاز (صوت خارج عن المقام).

والمقامات الصوتية هي: الصبا – النهاوند – العجم – البياتي – السيكا – الحجاز – الراست – الكورد.

ثانياً: قراءة القرآن بالمقامات الصوتية

أسلوب يستخدمه بعض القرّاء لتحسين الأداء الصوتي والتجويد أثناء التلاوة، حيث يُوظَّف التنغيم الصوتي بطريقة تساعد على إيصال المعاني والتأثير في المستمعين، ومن أشهر المقامات المستخدمة في التلاوة:

  1. مقام البيات: يتميز بالخشوع والهدوء، ويستخدم في آيات الرحمة والموعظة.
  2. مقام الصبا: يتميّز بالحزن والتأثر، ويستخدم غالباً في آيات العتاب والمآسي.
  3. مقام النهاوند: يتميز بالعذوبة والرقة، ويستخدم في آيات الجنة والنعيم.
  4. مقام الحجاز: يضفي إحساساً بالرهبة والجلال، ويستخدم في آيات العظمة والقدرة الإلهية.
  5. مقام الراست: مقام قوي ومتوازن، ويُستخدم في التلاوات التي تحتاج إلى هيبة ووقار.
  6. مقام السيكا: يتميز بالطابع الروحاني، ويستخدم في الأدعية والآيات الوجدانية.
  7. مقام العجم: يوحي بالعظمة والقوة، ويستخدم في آيات التمجيد والتكبير.
  8. مقام الكورد: يُعد مثالياً للتعبير عن المشاعر العاطفية مثل الحب، الشجن، والأمل، ويستخدم في آيات القصص والدعاء والتضرع.

ثالثاً: حكم قراءة القرآن بالمقامات الصوتية

اختلف العلماء حول هذه المسألة:

الرأي الأول: (الجواز بضوابط)

يرى بعض العلماء أن قراءة القرآن بالمقامات الصوتية جائزة بشروط منها:

  • عدم الإخلال بأحكام التجويد.
  • عدم تكلف التنغيم بطريقة تخرج القارئ عن تقدير مكانة القرآن الكريم، وإغفال الغاية الأساسية من تلاوته.

الرأي الثاني: (المنع)

هناك فريق من العلماء من يرى أن استخدام المقامات يشبه الغناء، وهو من قبيل الابتداع، وقد يؤدي إلى الميل إلى الأداء الموسيقي على حساب التدبر والخشوع، فمن العلماء من رأى أنه خلاف ما عليه السلف، ولأن القارئ ربما يغفل عن وجه الأداء، فقالوا بعدم الجواز سداً للذريعة.

١ـ أدلة من قالوا بجواز قراءة القرآن بالمقامات الصوتية

هناك عدد من الأدلة التي يستند إليها القائلون بجواز تحسين الصوت في تلاوة القرآن باستخدام المقامات الموسيقية بشرط عدم الإخلال بأحكام التجويد، أو الميل إلى التكلف والغناء، ومن هذه الأدلة: 

الدليل الأول: الأمر بتحسين الصوت في القرآن:

  • قال النبي ﷺ: “زينوا القرآن بأصواتكم” (رواه أبو داود والنسائي)
  • وقال أيضاً: “ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن”. (رواه البخاري ومسلم)

كلمة “يتغنى” في الحديث فُسِّرت بعدة معانٍ، ومنها تحسين الصوت عند التلاوة، وهو ما يتحقق من خلال استخدام المقامات الصوتية بشكل فطري أو مدروس. 

الدليل الثاني: فعل الصحابة والسلف الصالح:

  • كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يُعرف بجمال صوته، وكان النبي ﷺ يحب أن يسمع منه القرآن، وقال له: “إني أحب أن أسمعه من غيري”. (متفق عليه).
  • ورد أن أبا موسى الأشعري كان يقرأ القرآن بصوت جميل، فقال له النبي ﷺ: “لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود”. (متفق عليه)

وهذا يدل على استحباب تحسين الصوت عند القراءة.

الدليل الثالث: عدم وجود دليل شرعي يمنع استخدام المقامات الصوتية:

  • لا يوجد نص صريح في الكتاب أو السنة يحرّم قراءة القرآن بالمقامات ما دام ذلك لا يخلّ بالتجويد أو يؤدي إلى التلحين المفرط الذي يخرج التلاوة عن طبيعتها.
  • استخدام المقامات هو مجرد وسيلة لتحسين الأداء الصوتي، مثل تعلّم قواعد التجويد والأداء الحسن.

٢ـ ضوابط جواز تلاوة القرآن بالمقامات الصوتية

ليكون استخدام المقامات مشروعاً يجب مراعاة بعض الضوابط:

  • الأول: عدم الإخلال بأحكام التجويد: يجب أن تبقى مخارج الحروف وصفاتها صحيحة.
  • الثاني: عدم المبالغة في الأداء: بحيث لا تتحول التلاوة إلى غناء، أو تلحين يشابه الألحان الموسيقية المبتذلة.
  • الثالث: التزام الخشوع والتدبر: الأصل في قراءة القرآن التدبر والخشوع، وليس مجرد الأداء الصوتي.

٣ـ أدلة من قالوا بتحريم قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية

سنذكر بعضاً من أدلة التحريم التي استدل بها العلماء الذين منعوا تعلم المقامات الموسيقية واستخدامها في تلاوة القرآن الكريم:

قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزمل: ٤)

والترتيل في اللغة يعني التلاوة المتأنية المتدبرة، ولم يرد في الشرع الأمر بإلحان القرآن على هيئة الألحان الموسيقية.

حديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال:

“اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء أقوام بعدي يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم”. (رواه البيهقي والطبراني)

الحديث ينهى عن تلاوة القرآن بأساليب الغناء والترجيع الموسيقي.

حديث عن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله ﷺ قال: ” أخاف عليكم ستّاً: إمارةَ السُّفهاءِ، وسفكَ الدَّمِ، و بيعَ الحُكمِ، و قطيعةَ الرَّحِمِ، و نَشْوًا يتخذون القرآنَ مزاميرَ، و كثرةَ الشُّرَطِ”. (أخرجه الطبراني)

يَتَّخِذونَ القُرآنَ مَزاميرًا؛ أي: يَتَغَنَّونَ به ويَتَشدَّقونَ، ويَأتون به بنَغَماتٍ مُطرِبةٍ.

اقرأ أكثر: موضوع علوم القرآن وفائدة دراسته

رابعاً: التغني بالقرآن وتحسين الصوت

التغني بالقرآن هو الجهر به مع تحسين الصوت والخشوع فيه حتى يحرك القلوب، فتخشع وتطمئن وتستفيد، وهذا هو الذي وردت النصوص بمدحه والحث عليه؛ عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “زينوا القرآن بأصواتكم”. (رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني)

وتحسين الصوت بالقرآن معناه أداؤه على الوجه الصحيح، بمراعاة مخارج الحروف وصفاتها، والسلامة من اللحن، والمحافظة على كيفية المد فيه والإدغام والإظهار والغنة والقلب والإمالة والتحقيق والتسهيل والإبدال والنقل والإخفاء والاختلاس وغير ذلك من الأبواب المعروفة فيه.

 عن أبي هريرة أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم -يقول: “ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به”. (متفق عليه)

وروي عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم”. رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في معجمه الأوسط، لكن هذا الحديث ضعفه الألباني رحمه الله، وقال المناوي في التيسير: “والحديث منكر”.

قال المباركفوري في مرقاة المفاتيح: قوله: اقرؤا القرآن بلحون العرب.

قال الجزري: اللحون والإلحان جمع لحن، وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسين قراءة القرآن أو الشعر أو الغناء، (وأصواتها)؛ أي: ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شي من الحروف عن مخرجه لأن ذلك يضاعف النشاط؛ قال القاري: “وأصواتها عطف تفسيري؛ أي: بلا تكلف النغمات من المدات والحركات الطبيعة الساذجة عن التكلفات”.

(وإياكم ولحون أهل العشق)؛ أي: أصحاب الفسق من المسلمين الذين يخرجون القرآن عن موضعه بالتمطيط بحيث يزيد أو ينقص حرفاً فإنه حرام إجماعاً، قيل: المراد بلحون أهل العشق ما يقرأ بها الرجل في مغازلة النساء في الأشعار برعاية القواعد الموسيقية والتكلف بها. (ولحون أهل الكتابين)؛ أي: التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى، وكانوا يقرؤن كتبهم نحواً من ذلك ويتكلفون لذلك، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

 قال في جامع الأصول: “ويشبه أن يكون ما يفعله القراء في زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤون بها، نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرجّعون) بالتشديد أي يرددون أصواتهم بالقرآن؛ قال الجزري: الترجيع ترديد الحروف كقراءة النصارى (ترجيع الغناء) بالكسر والمد بمعنى النغمة أي كترجيع أهل الغناء، (والنَّوح) بفتح النون؛ أي: وأهل النياحة.

قال القاري: المراد ترديداً مخرجاً لها عن موضوعها، إذ لم يتأت تلحينهم على أصول النغمات إلا بذلك.

قال ابن القيم في زاد المعاد: وفصل النزاع، أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلّي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: “لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً”.

 والحزين ومَن هاجه الطرب، والحبُ والشوق لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكَلفٌ لا متكلَف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.

الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره، وكلُّ من له علم بأحوال السلف يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة،

وأنهم أتقى للّه من أن يقرؤوا بها، ويُسوّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوْق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.

قال ابن قدامة في المغني: وعلى كل حال فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب غير مكروه، ما لم يخرج ذلك إلى تغيير لفظه وزيادة حروفه، فقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي-صلى الله عليه وسلم-: استمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع قراءة أحسن من قراءته، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستمع قراءته ثم قال: “هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا”.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: إني مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: لو أعلم أنك تستمع لحبِّرتُه لك تحبيراً.

ويرى جمع من أهل العلم كره القراءة المشابهة لألحان الأغاني، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: وفصل النزاع، أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلّي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: “لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً”.

 قال الشيخ زكريا في شرح روض الطالب: “فأما القراءة بالألحان فأباحها قوم وحظرها آخرون”، واختار الشافعي التفصيل وأنها إن كانت بألحان لا تغير الحروف عن نظمها جاز وإن غيرت الحروف إلى الزيادة فيها لم تجز، وقال الدارمي: القراءة بالألحان مستحبة ما لم يزل حرفاً عن حركته أو يسقط فإن ذلك محرم؛ وقال ابن العربي في الأحكام: “واستحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالألحان والترجيع، وكرهه مالك. وهو جائز لقول أبي موسى للنبي عليه السلام: “لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا”، يريد لجعلته لك أنواعاً حساناً، وهو التلحين، مأخوذ من الثوب المحبر، وهو المخطط بالألوان، وقد سمعت تاج القراء ابن لفتة بجامع عمرو يقرأ: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} فكأني ما سمعت الآية قط. وسمعت ابن الرفاء -وكان من القراء العظام- يقرأ، وأنا حاضر بالقرافة، فكأني ما سمعتها قط، وسمعت بمدينة السلام شيخ القراء البصريين يقرأ في دار بها الملك: {والسماء ذات البروج} فكأني ما سمعتها قط حتى بلغ إلى قوله تعالى: {فعال لما يريد} فكأن الإيوان قد سقط علينا، والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن،

وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب وذهاب القسوة منها. وكان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئاً طول قراءته إلا الاستماع إليه، وكان صاحب مصر الملقب بالأفضل قد دخلها في المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وحولها عن أيدي العباسية، وهو حنق عليها وعلى أهلها بحصاره لهم وقتالهم له، فلما صار فيها، وتدانى بالمسجد الأقصى منها، وصلى ركعتين تصدى له ابن الكازروني، وقرأ: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } فما ملك نفسه حين سمعه أن قال للناس على عظم ذنبهم عنده وكثرة حقده عليهم: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين }.

والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى، وزيادة في الخلق ومنة، وأحق ما لبست هذه الحلة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله؛ فنعم الله إذا صرفت في الطاعة فقد قضي بها حق النعمة.

وجاء في فتح الباري لابن حجر: ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب وإجراء الدمع، وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبندنيجي والغزالي من الشافعية وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة، وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز وهو المنصوص للشافعي، ونقله الطحاوي عن الحنفية. وقال الفوراني من الشافعية في الإباحة يجوز، بل يستحب.

 ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير قال النووي في التبيان: أجمعوا على تحريمه. ولفظه: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفاً أو أخفاه حرم. قال: وأما القراءة بالألحان فقد نص الشافعي في موضع على كراهته، وقال في موضع آخر لا بأس به، فقال أصحابه: ليس على اختلاف قولين بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرم، وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم،

وكذا حكى ابن حمدان الحنبلي في الرعاية، وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية: “إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا”، والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسناً فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث. وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح، ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم، فإن الحسن الصوت يزداد حسناً بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعى الأداء، فإن وجد من يراعيهما معاً فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء.

نخلص من ذلك إلى أن تحسين الصوت في قراءة القرآن والتغني به هو أمر مطلوب شرعاً والذي هو من قبيل قراءته بمقام يناسب حال الآيات من دون إخلال بقواعد التجويد والوقف والابتداء، ومن دون تكلف وتصنع مع إخلاص نية.

وذلك مما يجذب الناس لسماع كلام الله تعالى والتأثر به ثم تدبره.

خامساً: صفة تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم

قال ابن القيم في (زاد المعاد): “كان له ﷺ حزب يقرأه، ولايخل به، وكانت قراءته ترتيلاً لا هذّاً ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفاً حرفاً، وكان يُقطِّع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، فيمد (الرحمن) ويمد (الرحيم)، وكان يستعين بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته فيقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، وربما كان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه” رواه ابن ماجة.

 وكان تعوذه قبل القراءة، وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع ﷺ لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه.

وكان يقرأ قائماً وقاعداً ومضطجعاً ومتوضئاً ومحدثاً ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة.

وكان ﷺ يتغنى به، ويرجع صوته فيه أحياناً كما رجع يوم الفتح في قراءته {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه، آآآ ثلاث مرات، ذكره البخاري.

وعن أبي هريرةَ قالَ: كانَت قراءةُ النَّبِيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلم باللَّيلِ يرفعُ طَورًا ويخفضُ طَوراً

 | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح أبي داود

الصفحة أو الرقم: 1328 | خلاصة حكم المحدث: حسن

وكان للنبي -عليه الصلاة والسلام- حزب من القرآن يقرؤه، وكانت قراءته ترتيلاً، وكان -عليه الصلاة والسلام- يعطي الحروف حقَّها على الأصول الصحيحة، فلم تكن قراءته عجلة ولم تكن أيضاً بطيئة جداً، بل كانت معتدلة كأفضل ما تكون القراءة، كانت قراءته -عليه الصلاة والسلام- مفسرةً حرفاً حرفاً، وروي ذلك أيضاً عن أم سلمة -رضي الله عنها- كما كان يُقطِّع القراءة ويقف عند كل آية فيقول مثلاً: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ويقف، ثم يقول: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ويقف، ثم يقول: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ويقف، ثم يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ويقف، ثم يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُستَقِيمَ﴾ إلى آخر ما كان يقرأ عليه الصلاة والسلام وهكذا…

وقد روى الزهري أن قراءة النبي -عليه الصلاة والسلام- كانت آية، وروى ذلك أيضاً البيهقي في (شعب الإيمان) وروى غيره كثيرون ممن رجحوا الوقف على رؤوس الآيات ما أمكن إلا أن يختل المعنى أو ينقلب فعندها لا يجوز الوقوف.

خاتمة

تحسين الصوت بالقرآن أمر مشروع ومحبّذ، وعليه أدلة من السنة، أما استخدام المقامات فإن كان يساعد القارئ على تحسين الصوت من دون إخلال بالأحكام فهو جائز، وأما إن أدى إلى التلاعب بالألفاظ والتجويد، أو الميل إلى اللحن الموسيقي فهو غير مقبول.

وبطبيعة الحال، إن أي قارئ للقرآن وكيفما كانت قراءته وسواء قصد أو لم يقصد فإنه يقرأ بمقام صوتي ما، ولكن ما أجملها تلاوة من يتقن المقامات من غير تكلف وتصنع بل بطبيعة وسجية وموهبة من الله تعالى.

وفي الختام لا ننسى أن الغاية من التلاوة التدبر وليس الطرب، وتحسين الصوت هو مجرد وسيلة للوصول إلى غاية الفهم والتدبر والعمل بالقرآن الكريم، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة الشائعة عن قراءة القرآن الكريم بالمقامات الصوتية

هل تجوز التلاوة بالمقامات إذا لم تُخِل بأحكام التجويد؟

الراجح -والله أعلم- أنه يجوز، فما هو التغني وتحسين الصوت المذكور بالأحاديث إذاً إن لم يكن تلاوة القرآن بالمقامات! إضافة إلى أن القارئ بطبيعة الحال -ولو لم يتقصد ذلك- يقرأ بمقام صوتي.

ما الفرق بين تحسين الصوت والتلحين في التلاوة؟

تحسين الصوت مستحب وهو التلاوة بمقام جميل يناسب حال الآيات، تلحين التلاوة أيضاً هو القراءة بالمقامات الصوتية، ولكن يشترط لكي يكون مباحاً ألا يخرج القارئ عن أحكام التجويد والوقف والابتداء.

هل تؤثر المقامات على الخشوع في التلاوة؟

ينبغي ألا يكون تركيز القارئ على المقامات خلال التلاوة لكي لا يؤثر على خشوعه، أما إن كان جل همه هو التلحين والتنقل بين المقامات وتطريب السامعين فمن المؤكد أنه سيبعده ذلك عن الخشوع.

ما المقامات الصوتية الأكثر استخداماً في التلاوة؟

من أكثر المقامات انتشاراً عند القراء حالياً هو مقام الكورد والبيات.

كيف يمكن الجمع بين التجويد الصحيح وتحسين الصوت بالمقامات؟

 ينبغي أن يتقن القارئ التجويد عملياً، وأن يدرسه ويتعلم أحكامه نظرياً، ويقرأ مراعياً أحكامه، أما تحسين الصوت فيكون بسماع القراء المتقنين والتعلم من أدائهم وتقليدهم، فيصبح أداء القارئ حسناً من دون تكلف، والله أعلم.

الكاتب: أ. عبد الله الأعسر

شارك المقال مع اصدقـائك:

zuolfa app

سجل معنا وابدأ تجربة تطبيق زلفى لتعلم القرآن واللغة العربية

إذا كنت ولي أمر ترغب في تعلم ولدك أو تعلمك بنفسك تلاوة القرآن الكريم أو اللغة العربية عن طريق تطبيق زلفى
شارك معنا اسمك ورقم هاتفك (وتساب) وترقب تواصلنا معك لنمنحك فرصة تجريب التطبيق

تسجيل سريع في تطبيق زلفى

zuolfa app

سجل معنا وابدأ تجربة تطبيق زلفى لتعلم القرآن واللغة العربية

إذا كنت ولي أمر ترغب في تعلم ولدك أو تعلمك بنفسك تلاوة القرآن الكريم أو اللغة العربية عن طريق تطبيق زلفى
شارك معنا اسمك ورقم هاتفك (وتساب) وترقب تواصلنا معك لنمنحك فرصة تجريب التطبيق

تسجيل سريع في تطبيق زلفى

نسعى نحو العلوم زلفى
تعلم – استمتع – نافس

لنبقى على تواصل
حمل تطبيق زلفى الآن

جميع الحقوق محفوظة © 2025 منصة زلفى

نسعى نحو العلوم زلفى
تعلم – استمتع – نافس

لنبقى على تواصل
حمل تطبيق زلفى الآن

جميع الحقوق محفوظة © 2025 منصة زلفى